الملحق الثقافي: حوار:خالد عارف حاج عثمان:
حقّقت القصيدة النثريّة، ومنذ تسعينيات هذا القرن، نجاحاً مهمّاً ولافتاً، وسواء على سبيل المضمون، أم الشكل البنائي، أو كليهما معاً، وهو نجاحٌ حتى في مجال وفرة النصوص أو طبيعتها، وغناها الفكريّ والفنيّ، وذلك على مستوى الساحة الثقافيّة العربيّة بأكملها.
في حوارنا هذا، سوف نتعرّف إلى تجربةٍ شعريّةٍ ونثريّة ثريّة، هي تجربة الشاعر المغربيّ «أحمد بياض»، الحامل لشهاداتٍ عليا في التربية والتكوين، والذي له من الدواوين الشعرية، في مجال قصيدة النثر: «مناجمٌ في حوض الشتاء» و «موتُ كفّ على غسيل نجمة» و»شمس الهجير» و»سفر أيوب» وغير ذلك مما كان دافعاً لحوارنا معه، وسؤاله:
– من هو «أحمد بياض».. الإنسان أولاً، ومن ثمّ الشاعر؟..
– – الإنسان إنسانٌ، لكن الشّاعر يعيش يقظة الحروفِ من اختمار هياكل الذكرى، وجسد الشعور، وروح الوجود.. ليس هناك اختلافٌ بين الإنسان الشاعر، والشاعر في ذاته، إن كان هناك انسجام فعليّ.. بطبيعة الحال، تؤثّر بعض الظروف التي تواكب الكتابة، وكلّ كتابةٍ من زفيرِ الواقع.
لديّ حياة بسيطة وعادية، بين المكتبات، المقاهي، في مؤسسات مهنيّة وتربويّة، ثقافية وأدبيّة، مع بعض الأصدقاء، أو على شاطئ البحر..
– هل لكَ أن تحدّثنا عن تكوينكَ الطفولي والاجتماعي. أي البيئة التي أطلقتكَ شاعراً؟..
– – طفولتي بسيطة، عشتها في منزلٍ، تكامل التلاحم والحنان بين الآباء والأجداد، والأخوة والأخوات فيه.. هذه الأسرة العتيقة، كان لها جانب نفسي مهمٌّ جداً، فقد كنتُ أكتب تحت ظلّ البوح والمناجاة .
مات أبي فأصبحت الدنيا بمرآةٍ أخرى، ونضجَ وعيي الطفولي، فقد سعيتُ لتكسير الحزن في الفترة الأولى، عن طريق الانغماس في التحصيل والمثابرة، وإلى أن ألفتُ الوجود وكتبتُ قصائد عديدة، من ذكريات كثيرة هي من وحي الصبا، الحكايات القديمة، الخرافات، سيرة بعض الأبطال..
هذا الاتجاه مدّني بطمأنينةٍ، والشيءُ الذي جعلني أبحث عن التأويل، والفهم فقرأتُ: الطبري، القرطبي، في الظلال، الكشاف للزمخشري، في علوم القرآن، على هامش السيرة، البداية والنهاية، ثم ابن عربي، الحلاج وكتب أخرى.. وكأنني أبحث عن شيء، لم يُرَ بعد.
– هل من طقوسٍ معينة، أو خاصة بالكتابة لديك؟.
– – من ناحية الكتابة، لم أتأثر بلحظة انتقالية فرضت نفسها على ما أكتب، باستثناءِ الظروف وبعض الأحداث.. في المهجر كانت العزلة، فكتبت الكثير وحاولت انتشال الفكر من الأعماق عند الأدباء.. قرأت الأعمال الكاملة، الأدب الفرنسي الكلاسيكي، والانجليزي، والألماني، ولجميع أدباء نوبل تقريباً، وأعجبني الأدب الروسي، وكلّ هذا قائم كنسيج في مخيلتي، وقد مكّنني من معرفة مكانة الإبداع في خلقٍ جديد ومستمر، وأن اللغة العربية خصبة جداً، ولها طموح أزلي، غير أنني لا أحتمل أن يكون للأدب وصيٌّ أو سيّد، فعندما تقرأ لكاتبٍ ما، تتجاوز الإدمان في غالب الأحيان، وهو ليس كبرياء أو نرجسية، لأنك عالجت قيمته الفكرية، وقرأت الكثير بعده..
بطبيعة الحال، هناك كتابات يتجدّد تأويلها، تأخذ قالب المطلق إن لم نقل الأزلي، أكتب مباشرة وأكون دائماً الزبون الأول للمقهى المعتادة، وتأتي الكتابة تلقائياً وتدريجيّاً، على روضة السكون، وبداية النهار.. لحظة انفرادٍ مثالية ونموذجية، لا تفكر فيها إلا عن تجسيد شعورك وطموحك، وهذا الانطباع يغزو كلّ شاعر حقيقي، في لحظة منفردة من عمق الذات، خارج ما يحمله الواقع من إيقاع روتينيّ مملّ، وكأنك تعيش في عالمٍ آخر، له أبعادٌ أخرى، بل وكأنّك في موعدٍ مع مجازفة، تدعوك إلى جمالية الحرف، وتشييد غربةٍ يتيمة، فأنا لا أكتب غموضاً، ولا أبحث عنه بقدر ما استجيب لطموح اللغة ونسيج الفكر .
– كيف تخلق الإحساس بجماليّة القصيدة؟.
– – الكتابة الشعرية موطن الإثارة والتشويق والدهشة، في قصائدي تراكيب جديدة غير مألوفة، وهذا خلقٌ جديد، وقد أشار إلى ذلك «أدونيس» وغيره، ورغم ذلك تراكمت عدميّة الاستيعاب.
أشيّدُ على متن اللغة نسقٌ جديدٌ، بوعيٍ خلّاق وملتزم، وقيمه الجمالية في الاستثارة والتأثير، تعطي شعلة نادرة في قالبٍ رصين، بالنسبة للقارئ أو المتلقي، وحتى بالنسبة للناقد مع الأسف الشديد، تبقى هذه الكتابة تحمل نوعاً من الغرابة والاكتئاب، في جزر منفيّةٍ لا تعي قيمة أبعاد الرؤيا، فكتاباتي عن زهرة الوجود، التي هي من عمق الذات، تستدعي قيمة الإدراك والوعي، بقالبها الفني، وبطرق همس الاستيعاب، فالزحف المباشر لا يمكنه معرفة حرفي وقصدي، وقيمة معناه، كما أنني لا أستطيع كبح مراسم اللغة، وهي تنحتُ موطن زفافها من جديد.
المشكل عندما تحقّق قيمة لغوية ما، تنتظر تناسباً فعليّاً لدى المتلقي، وهذا أمر لا يتحقّق كما تريده .
– كيف ترى الحداثة وما بعدها، وكيف تجلت في شعرك؟..
– – أنا أتجاوب فعليّاً مع اللغة، وأصل في ذلك إلى أقصاه.. نجاح الكتابة على الإدراك، إمكانات جديدة بمقياسٍ موضوعيّ ومنطقي؛ يعبّر عن غليانِ لحظة إنجاب آخر على مرآة اللغة، بنتاج تعبيرٍ آخر.
ليس هناك نموذج مطلق وسيادة قائمة كما يظن البعض، فالخيال يتطور بالمعرفة، والمعرفة لها غزارة رحم الأفكار.. للرواسب طابعها كقيمة تراثية؛ لكن تبقى الرغبة في ولوجِ فضاءات أخرى، في صياغة كلماتٍ تستجيب إلى لحظة الانفعال الذاتيّ في أقصاه، تقتحم نزيفاً آخر في إشكالات جديدة، فإنك أحياناً لا تدري كيف يأتي هذا الاكتساح بشوقِ الغيوم، كتمرّد وانتفاضة، تتناسب مع ما تريد كتابته، والتعبير عنه بجلاءٍ «لغة متصوّفٍ يشقُّ وجوداً آخر/ ومغزى جديداً للأشياء والحقيقة والمعنى».
ما بعد الحداثة، مرحلة جديدة تستدعي كتاباتٌ أخرى، تعبّر عن أزمة العصر بعد الإحباط الشمولي للمرحلة السابقة والحاضرة، في آنٍ واحد..
ما بعد الحداثة، انفصالٌ يجب أن يكون له تعبيراً آخر، والإبداع الحقيقي نزيفٌ لقيمة الوعي بذلك، فالكتابة الحالية لازالت نقداً للواقع، دون البحث عن بديلٍ لتجاوزه، أو تجاوزه دون يقظة تغزو ذلك النفود.
إننا في بداية عصر جديد، يستدعي ولادةٍ أخرى قائمة بحدِّ ذاتها؛ ولغة أخرى للتعبير، وغزوة تأمّل جديدة، تحمل وتُترجم أكاليل أخرى لمعنى الوجود؟!!!
للقدرة على الوصفِ لا بدَّ من تقنيةٍ أخرى فعّالة، فكتاباتي محاولة لصياغة ما يُرى وما سيأتي بشموليةٍ، وبعينٍ ثاقبة ولغة تستهوي القارئ، لكن ليس المتعجل والضيق الإدراك.. لها جانبٌ فكريّ ولغويّ طموح، تتّسم بتراكيبٍ جديدة وصور شعرية تلهم المشاعر.. لها نفسٌ طويلُ المدى، ومرآة شعاع تسعى إلى يقظة الحروف بشوق بديل.
كلُّ ما يكتب ليس له وميض المستقيل، لأن هناك انفصال وانشقاق، كُسر عزف الديمومة وأصبحت في فراغ، وكذلك النهج الفكري.
الفلسفة أصبحت فلسفة شريدة، لها طقوسها، وربما هناك كتابات تجاوزت حاضرها لكنها، لا ترمز إلى ما سيأتي… لنفرض أننا أعدنا كتابة قصيدة «أرض الخراب» لـ «س إليوت» كقربانٍ، هل هذا يكفي؟!!! وهذا اجترار سيّء ربّما.. الشكل يليق لكن المحتوى متجاوز، والكثير من القصائد لها فنّية عالية أصبحت خارج الاستهلاك الفكري.
– كيف امتلكت هذا الثراء الثقافيّ والمعرفيّ والأدبيّ المتنوع؟..
– – لقراءاتي تأثيرٌ، ولتنوّعها أثرٌ كبير، يبقى أيضاً ما يعكسه الشعور على موجة السّفر، تعانق التشابك على زهرة الإلهام، في انسجامٍ تام، تزهر تلك اللغة كمذبحِ الاعتراف، فتصبّ أقانيم نشأة منفردة تزهو بالمشاعر بأوج ما تمتلكه من فكرٍ، على رحيق شعراء وأدباء رافقتهم على حبر الصفحات.
أقيم جسر الامتداد، ربما دون هوية. أبحث عن نفسي في وجدان التيه، غير أنني أملك شعور البقاء، طفلٌ عربّي يشقُّ السبيل على نهر يدعو إلى الزفاف، فأكتب القصيدة، أحمل الجسور القائمة، وأشيد جسراً آخر ينفرد بصحوة أخرى، بيقظةٍ أخرى، بعطرٍ جديد يطفو فوق ما سبقه من أريج، على مهد ريح متقشفة تروض اللغة، تبحث عن مدنٍ شاهقة، تحتسي كلّ الجرعات وتصبها على أكليل المقل…
وللكتابة ظلّ آخر، وهي تتنسّم بريق جل الاشعار: بابلو نيرودا، محمود درويش، ألبيرتو مورافيا، طاغور، هوميروس، سحر المعلقات، الشعر الأندلسي، شعراء وأدباء نوبل، أحمد المجاطي، لوركا، وآخرون.. كلّهم يملؤون مدادي…
– مضامين قصائدك، من أين تستمدّها..؟
– – ما تحمله كتاباتي من سماتٍ فنية، ناتج عن كوني، أريد إشباع اللغة بطعم منفرد، بنشيد آخر، بشعاع آخر، بإدراكٍ فعلي لقيمتها المطلقة، خارج التخاريف المعتادة، والأنماط السائدة، ووعي بقيمة اللغة العربية وجماليتها … فاللغة مكانة الاعتراف، وهي تزهر من مسامِ الشعور.. تنفردُ اللغة الشعرية بهذه القيمة، تحمل ظمأ التروّي في قالب يسمو بها، إلى ما لا نهاية .
وأنت تفطن بذلك البلوغ، تلاحقه في الأعالي، لا تريد أي شيءٍ غير ملاحقة تلك المجازفة، على أسطول الغيم، تنشر صفحات الضبابِ على فضاءٍ آخر بجمالية الألفاظ…..
– كيف تبتعد بقصيدتك، عن التشيّؤ..؟
– – الشاعر هو من يكسر رتابة الألوان، وأغلال النماذج السابقة بإلهامٍ آخر… للقصيدة اعتراف متبادل، وأنت تنثر اللغة في أحضانها، تتموج بانتفاضةٍ شفافة، تأوي جرحك الساقط من الدجى، تئنُّ بحنان، بشوق ناسكٍ للاستحمام في حوض مرآة الخلود، تتلألأ على سطح الغيم، تكسر الجرح في المدى، لتأوي فصول الانشراح، كلّ قصيدة تأوي جرحاً، وكسيره جرحاً من رماد الذكريات، من خدِّ الحاضر.. تسعى وراء لهيبِ الفرح، من فنجان الانتشاء.
تنشر غشاوة الأبعاد، تنحت جسداً آخر، يزهر عقم الولادة بطعم المستحيل، وهذه الحرية ليس لها بديل.. تجاوز للبحث عن نغمة سطور كانت مفقودة، لتعيد الصدى لمرآة الصباح، كانت ملغومة في المساء الأخير من الكتابة.
الجرح بداية، الجرح إقنيم الزفاف، وموطن الفصل عن عزلة بدائي، تزهر طفولة الأنقاض على نسيج بديل، تنصهر الشموع لاستقبال الضحى على أوتار الولادة….
– ما موقع الرمز ودوره وطبيعته، في قصيدتكَ النثرية؟
– – الرمز في قصائدي بيّنٌ وجليّ، فأنا أرمز دائماً، ولو بطريقة غير مباشرة، عن بناء لغتي الشعرية، وهذا بوح دائم.. أتقاسم على منوالها جرعات، أي عربيّ يعيش هذا العصر .
– كيف تنظرُ إلى عاطفة الحب في العالم العربيّ؟ ..
– – الحبُّ أسمى العواطف الإنسانية، وعلى الشعر أن يسمو بها ..هناك عدة كتابات تسيل بالعشق والحنين، منذ المعلقات وما قبلها أيضاً، في العالم الأسطوري، وعند جميع الشعوب، وهذا يكشف عن قيمة هذه العاطفة ومكانتها عند الأدباء والشعراء.
على أروقة هذا النسيم، هناك لغة سحرية تزخر، برونق الألفاظ وعذوبة الأسلوب، لا جدال في ذلك.. أشير أيضاً بأن للحب قدرة سامية لمعالجة الانطباع النفسي في محنة التيه… والحب بذاته إلهاماً، لنذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه «جميل بن معمر» وآخرون.. تتجلى هذه العاطفة كثيراً، في جلّ الكتابات الشعرية العربية، عند معظم الشعراء، وقد أصبحت سائدة لديهم…
التاريخ: الثلاثاء 17- 8- 2020
رقم العدد: 1059