حبالُ السّرد.. أفكارٌ تنطلق…

الملحق الثقافي – وارد بدر السّالم*:

سيكون الحبلُ في مستقبل هذه الكتابة، جزءاً من عقدة النصّ، بوصفنا المتعارف عليه، من أن النصّ ذو العقدة الفنيّة، عبارة عن محاورةٍ شعريّة تتداخل فيما بينها، لتنتج النصّ بشكله العام، بعبارة أن النصّ، هو مجموعة خيوط منعقدة فيما بينها، وهذه الخيوط تشكّل حبالاً أكثر متانة، لربط الأفكار وإنشاء عقدة معينة في شعريّات متناوبة، تقع بين اللغة والوصف والصورة والفكرة، والسرد بمجمله وجماليّاته المختلفة.
الحبلُ بهذا المفهوم، تتشظّى معانيه وتتعدّى حدود المفردة، إلى دلالاتٍ أكثر سعةً وتعقيداً، ويكون الحبل في حياتنا كعقد الروايات، وغموض القصائد، وشطحات التشكيل التجريديّ، وهو ما يشجّعنا على قراءة هذا الشّكل الأفعوانيّ، بأطواله غير المتساوية، وغير المستقرّة، ونقف عند معطياته الجمالية المتعدّدة، في رفدِ الحياة بعناصر يومية لا تفارقنا كثيراً، وهي قراءة قد تكون وصفيّة إلى حدٍّ ما، لكنها تحاول أن تصل إلى فحوى الحبل، كونه شكلاً قادراً على أن يكون أكثر من شكلٍ في مرأى الحياة..
(1)
في أرجوحة الكاتب والقاص «محمد خضير» تتعامد حبال «الأرجوحة» وهي تقذف بالصبيّة التي تنتظر أباها الجندي الذي يقاتل في الجبهة، إلى فضاءٍ ملغوم لا تشعر به، لتشكّل الأرجوحة باستعارتها المباشرة، حياة غير مستقرّة في أجواء الحرب.
وفي عزلة «ماركيز» المئوية، تطير «أورسولا»، مع حبال الغسيل، في عجائبيات «ماركيز» التي تفوّقت على الخيال، وبدت الحبال المعلّقة على السّطح، عنصراً فنيّاً عرضيّاً، وهي تنشر الثياب المبلّلة، كأنها فعلٌ سحريّ، جعل «أورسولا» تطير وتخرج من الرواية إلى الأبد..
(2)
سيبدو الحبل أيضاً، هو الحياة وهو الموت، كما في الرواياتِ، وفي عقدِ الدراما المحليّة والعربية، كما لو أنه عقدةُ العُقد بينهما وفيهما، فالحياة تبدأ من حبلِ السرّة، وتنتهي بحبل الإعدام، وبين هاتين الفاصلتين ثمّة حلم طويل، لكنه متقطّع مثل الحبل، يقصر ويطول حسب الحياة وتجلّياتها.
هذا الحلم أخضغوه إلى رؤى متعدّدة، فالحبل ليس طيّات ليفية أو صوفيّة، معقودة ومنطوية على نفسها، نستخدمها في أغراضٍ يومية، بل تعدى الأمر كما في كلّ ذاكرة شعبية، إلى أسطرته وتفسيره وتأمّل شكله الداخلي، ونحن إذ نعرج على ما يمنحه لنا المفسّرون من رؤى اجتماعيّة أو روحيّة، لا نستسيغ أيّة عمامة تشطح بتفسير «واعتصموا بحبلِ الله..»، على غير ما فيها من روحانيات وقدرات وكرامات روحيّة معلنة وباطنة، فالباطن في الآية هو الظاهر فيها، ووفقه يكون حبل الاعتصام متيناً بين المؤمنين، ومن هذا الحبلِ السّماويّ، سنمضي مع الحبال الأخرى، كونها حبالاً تنزل من السماء أيضاً، فالحبلُ ينزل ولا ينهض، لذا فعلاقته سماويّة وجذره سماويّ، ولم نرَ حبلاً ينهض من الأرض ويتسامى، إلا برفعه باليد أو بآلة، لكنه لا يستقيم في الحياة كلّها، لذا فالنزول هو سمةٌ حبليّة ترتبط بالأرض، لكن جذرها ليس الأرض، ومن الواضح هنا أن لها علاقة عليا، وإن كان منبتها الأرض.
(3)
حبل السرّة.. ولادة حياة.. شهيقٌ وزفير وصيرورة كائن حيّ.. رقم جديد يضاف إلى أرقام البشرية.. الخروج من ظلمةِ قناة ضيّقة، إلى قناة الحياة الأكثر اتّساعاً وضوءاً.. صراخٌ أوّل يشي بأن كائناً ولد بعد قطع الحبل السرّي الذي كان يغذّيه، ويبقيه على قيدِ الحياة المتنامية في الرحم، حتى الخروج الآمن إلى الطبيعة.
تسعة أشهر معلّقة في حبلٍ وحيد، وهو الحبل السّماوي الذي يربط العدم بالحياة، في مشيمةٍ لها وظائف بيولوجية متعدّدة، ويربط فكرة الخلق برحمٍ صغير يستقبلُ ماءً، وينتجُ كائناً بشريّاً، سيُعرّف لاحقاً باسمٍ وهويّة ويوم ميلاد، ويتكوّر هذا الكائن الغامض، فيصل إلى مراتبه الحياتيّة واستحقاقاته المختلفة، في سلسلةٍ إجرائيّة طويلة لا تخلو من التعقيد…
وظيفة الحبل السري تنتهي بعد الولادة، يصبح لحمةً زائدة لامعنى لها، إن كان قناة وصلٍ بين اللاشيء والشيء.. بين العدم والخلق، وستخلّف في موضعها نقرة صغيرة نسمّيها السرّة، وهي مركز جسم الإنسان تماماً..
حبل السرّة الناعم الذي لا يتجاوز قطره سنتيمترين، هو حبل الحبّ بين حياة يمضّها الانتظار، وحياة متكوّنة داخل شرنقة بيتٍ حميم، أتعبها الانتظار أيضاً، وهو القناة الواصلة بين التلقّي والإرسال، في حبكة الأمومة الفيّاضة بالدهشة، لهذا الخلق المتنامي من الفراغ، في حداثة الخلق العظيم، الخارج بأوّل صرخةٍ كونيّة، تهتزّ لها حواس الأم من دون غيرها..
وهنا تخرج إلى الحياة روح..
(4)
ليست الرواية هي المعنيّة بالحبال ورمزيّتها، ولا القصيدة باستثمار طاقتها اللغوية، واستعاراتها المكثّفة، فالحياة تستعير من الحبال الكثير من المعاني العظيمة، والاستدراكات الرمزية التي تؤدي أغراضها بسلاسة، ومنذ «… حبل الله» كتوصيفٍ رمزيّ لعلاقة الإنسان بالسّماء، من بابها الإيماني الذي يوطّد أركان الحبل النفسيّة، ذات القيم والسلوكيّة والمعرفيّة والإنسانيّة، فحبل النجاة أيضاً، هو وجهٌ آخر من أوجه السّماء، وسلوكيّاً فإن مثل هذا الحبل، يتقصّى سلامة العلاقات الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة بين البشر، فحبلُ الكذبِ قصيرٌ مهما طال، والكاذب تصدمه حقائق الصدق عادة، مهما تخفّى في أقنعة التلفيق والمواراة والكذب، وهنا استعارة لفظية دقيقة، تصل هدفها بيسرٍ، تشبه حبل المودّة الذي يربط البشر بعلاقات شفّافة، تقوم على أساس الودّ والخُلق والصدق، ولعلّ حبل الصبر من الحبال المطلوبة للمرء، وهو يواجه طوال عمره، أشكالاً من العنف والإشكاليات والخدائع والمكائد، الأمر الذي يجعلنا نقول، إن حبل التوازن الذي يستعمله مهرجو السيرك، هو بلاغة رمزيّة للبحث عن التوازن الحياتيّ أيضاً، وكي لانترك الحبل على الغارب كما يُقال، فننسى الحبال الصوتيّة التي تجعلنا نصرخ ونبكي ونضحك ونغني ونهتف، ونغتاب بعضنا في تقلّبات الدنيا، لابدّ من عقدِ الحبلِ مراتٍ ومرّات، كعقد الروايات والقصص، لنكون على بصيرة في بعض الحلقات التي تتطلّب غموضاً وسريّة لها خصوصيّتها في التعامل مع الآخرين.
(5)
الحبال كثيرة في الحياة.. فكلّ حبلٍ يضمن دوره في موقعه وحالته، ليتحوّل من آلةٍ بسيطة، إلى فعلٍ لا تُغفل أهميته في الرباط والعقد والتثبيت، وحصر الحالات في أمكنتها من الضروريات اليوميّة، التي تخطر ولا تخطر على البال، بدءًا من نشر الغسيل على الحبال، والذي استعاضت عنه اليوم نساء البيوت، بمناشرٍ نيكليّة وحديديّة، وحتى ربط السفن الصغيرة والعملاقة بحبالٍ غليظة وإيقاف جموحها وجنوحها، مع المدِّ والجزء، بإنزال مراسيها إلى قاع المياه بثقلٍ حديدي معقوف، وإلى حبال التسلّق الجبلي للهواة المغامرين، وحلبات المصارعة والملاكمة الدمويين، وحتى حبال الدلو النازلة إلى الآبار المظلمة والباردة.. لكن، تبقى حبالُ الربط الحيواني، شبيهة في فكرتها مع الحبال التي تربط أيدي المجرمين واللصوص، بحبالِ رجال الشرطة.
أمّا حبال الأفكار، فهي الحبال التي تنطلق من السّماء إلى السّماء، بجذرٍ عقليّ تنتظم البشرية فيه، وهي الحبال الآسرة التي تقودنا إلى قرائنِ النور أو الشكّ أو الفصاحة، وأرجو أن تبقى حبال أفكاركم، متوهجة على الدوام، ولا تنقطع لهذا السبب أو ذاك، كما يحصل معي الآن، فحبل السردِ انتهى.. وأتوقف…
*كاتب وروائي عراقي

 

التاريخ: الثلاثاء 24- 8- 2020

رقم العدد: 1060

آخر الأخبار
مصادرة أسلحة وذخائر في بلدات اللجاة بدرعا يحدث في الرقة.. تهجير قسري للسكان المحليين واستيلاء ممنهج على أملاك الدولة  نمو متسارع وجهود مؤسسية ترسم مستقبل الاستثمار في "حسياء الصناعية"  محافظ درعا يبحث مع رجل الأعمال قداح واقع الخدمات واحتياجات المحافظة مصادرة كمية من الفحم الحراجي في حلب لعدم استيفائها الشروط النظامية للنقل معالجة مشكلة تسريح عمال الإطفاء والحراس الحراجيين.. حلول الوزارة في مواجهة التعديات والحرائق المستقب... الفضة ملاذ آمن على الجيوب والأونصة تسجل ٦٠ دولاراً دخول قافلة مساعدات جديدة إلى السويداء خالد أبو دي  لـ " الثورة ": 10 ساعات وصل كهرباء.. لكن بأسعار جديدة  "النفط" : أداء تصاعدي بعد تشغيل خطوط متوقفة منذ عقود.. وتصدير النفتا المهدرجة الذهب يرتفع 10 آلاف ليرة سورية وانخفاض جزئي لسعر الصرف في مرمى الوعي الاجتماعي.. الأمن العام ضمانة الأمان  1816 جلسة غسيل كلية في مستشفى الجولان الوطني إيطاليا تقدم 3 ملايين يورو لدعم الاستجابة الصحية في سوريا وزير الطاقة :٣,٤ملايين م٣ يوميا من الغاز الأذري لسوريا دمج سوريا في المجتمع الدولي مسؤولية جماعية واستحقاق استراتيجي    Media line  زيارة الشيباني إلى موسكو.. اختبار لنوايا روسيا أم إعادة صياغة لتحالف قديم الغاز الأذربيجاني إلى سوريا.. خبيرة تنموية لـ"الثورة": تأثيرات اقتصادية على المدى المتوسط    د.يحيى السيد عمر لـ"الثورة": الطريق طويل لشراكة اقتصادية مع روسيا استخدمه بحذر... ChatGPT ليس سريا كما تظن