الملحق الثقافي – وجيه حسن:
في بادئِ بدْء، فقد وردَ في المعجم: ثَقِفَ يثقَفُ: صارَ حاذِقاً خفِيفاً، وَثقِفَ ثقْفاً وثَقافَةً وثُقُوفَة الكلام: حَذِقَه وفهمَهُ، وثقّفَ الرُّمحَ: قوّمَه وسوّاه، وثقّفَ الولدَ فتثقّفَ: هذّبه وعلّمه، فتهذّبَ وتعلّمَ، فهو مثقّف، وهي مثقّفة.. والثقافة: (التمكّن من العلوم والفنون والآداب)!
بناءً عليه، وانطلاقاً من هذه التعاريف، فقد داهمت بوّابة عقلي ثلّةٌ من الأسئلة، على القارئِ الحاذِق اللمّاح الإجابة عنها بكلّ أريحيّة وصدقيّة ونكران ذات:
سؤالٌ أوّل مُفادُه: أليس من المنطق والتعقّل، أنْ يعيش الناس في سلامٍ وأمنٍ وأمان، في هذا العالَم المُفعَم بالجَمَال، والمملوء أيضاً بسواد الظلم وجبروته؟..
سؤالٌ ثانٍ أكثر طلاوة وقرْباً: أليس منْ سيرورة الحياة وفلسفتها وضرورتها، أنْ يعيش العالَم كلّه بتآلفٍ إنسانيٍّ عالي المناسِيب، تحت قبّة النّجوم المتلألئة، التي لا حدّ لاتّساعها عبر ملايين السنين؟..
سؤالٌ ثالث مُثقل ببعض الأسَى: أليس الأجدى والأنفع لبني آدم وحوّاء، في هذه المَعمُورَة المُتراحِبة الأطراف، أنْ يتلاشَى منها الشرّ، الذي ما يفتأ يتنامَى في قلوب البشر وبأيديهم ونفوسهم، في هذه البقعة من العالَم أو تلك، في هذه الدولة أو في سواها؟.
سؤالٌ رابع مَعجُون بِطينِ الظلم والظلام: ألا يتلاشَى الشرّ الذي يسكن القلوب، بلمساتِ الطبيعة، هذه الطبيعة التي هي في الأُسّ والأساس، التّعبير المباشَر عن كلّ ما هو خيّر وجميل ومضيء؟..
سؤالٌ خامس يحوي معانيَ هامّة مُفَادُهَا: ألم يكن الأسلم لنا نحن – أبناء الإنسانيّة جمعاء – أنْ نبحث تحت سطوح الأشياء، لكي نجد المنطق الحقّ لهذه الأشياء؟..
سؤالٌ سادس بلونِ الفرح الأزْرق: ألم يكن المثقّفون الشّرفاء الأحرار، خلال الأعصر السّالفة، والأزمنة الغابرة، يساعدون دائماً في العثور على نظام جديد في الإبداع والخَلق، وعلى معنى في الحياة، وهؤلاء – وليس سواهم – هم الذين عملوا طوال دهور مضت، على تغيير وجه المجتمعات، مطلق مجتمعات، فهم بأفكارهم المُتنوّرة، وعقولهم الوضِيئة، قهروا الطواغيت، أذلّوا الجبابرة، كشفوا خيانات طغمة الأبالسة، أسّسوا ركائز إيجابيّة راسخة في الحياة، أضاؤوا لمجتمعاتهم دروب الحياة، وهم أنفسهم الذين عملوا ويعملون دائماً، في كلّ عصرٍ ومصر، على تأسيسِ جمهوريةٍ للأحرار الشّرفاء، لأنَّ المثقف الحقيقي الحرّ، حسب طبيعته وفلسفته، لا يعرف الزّيف، ولا المُمَالأة، ولا التّدلِيس، ولا الكذب، ولا “تمسيح الجُوخ”، ولا السّقوط من أجل المال، ولا المَهَانَة، ولا الدّونيّة، ولا خيانة أفكاره، ولا خيانة وطنه، ولا الغَرْغَرَة الكلاميّة الجوفاء، ولا التّعالي على الآخرين، ولا الثّرثرة الفارغة السّوداء، ولا الانخراط في بؤرةِ الشلليّة المَقيتة البغيضة، إلخ..
وفي زَعمِي على تواضعِه، فإنّ المثقف الحقيقي، “أي الإنسان”، بكلّ ما لهذه المفردة من عُمقٍ عَميق، ينبغي أن يكون مخلّصَ نفسه، ومخلّصَ أبناء جِلدته، وأبناء شعبه ومجتمعه، ممّا هم فيه من قهر وإذلال، ومن وجود أناسٍ فَسَدَة، ومثقّفين مأجورِين، وإظلام بادٍ، وضنْك عيش، وسوء معاملة، وضياع بوصلة، ومن الترّهات والأباطيل، لأنّ عقل الإنسان، الذي عمل المثقف الحقيقي على بلورته وتجييشه وصناعته، ينبغي أنْ يعمل دوماً في سبيل تنوير القلوب، حتّى يرفعها من خضمّ آلامها، وطِين أوجاعها، إلى فضاءاتٍ أرقى، أجمل، أرحب.. والمثقف الحقيقي الحرّ، “لا السَّمَكِي المأجور”، البعيد عن “الأنا”، وعن النّرجِسيّة القاتلة، وعن المواقف المُترهّلة، والمُحبّ لوطنه وشعبه حدّ الثّمالة، يمكن أنْ يُضَام، لسببٍ أو لآخر، والسؤال الأبرز بهذا السّياق: كيف يمكن لأحدٍ ما، أيّاً كان، أنْ يسجنَ عقلَ المثقّف، وفكرَه النيّر، فيتركهُ للغياهِب والظلام؟.. أو أنْ يكفَّ يدَه عن الرّصد والكتابة والتّحبير والنّقد البنّاء، ولاسيما إن لم تحمل هذه اليد يوماً، شيئاً أثقلَ من القلم؟!..
والشّيء بالشّيء يُذكَر، فإنّني سأردّد ما قاله الأديب العالمي “تشارلز ديكنز” (من مشاهير القاصّين الإنجليز، أبدعَ في وصف حياة البسطاء والأولاد البائِسِين).. سأردّد ما قاله يوماً، حول قيمة العمل الكتابيّ والإبداعيّ والتثقيفيّ في الحياة: “لا ريب في أنَّ كسب لقمة العيش عن طريق القلم، وحرفة الكتابة، إنّما يُعدُّ عملاً مُثبّطاً للعزيمة”! لكنْ حسب قناعة الكثيرين ونظرياتهم وفلسفاتهم، فإنّ المثقف الحقيقي، “لا المأجُور المُدَوْلَر”، شعلة حيّة في أيّ مجتمع، وأنّ مجتمعه المُفضّل، ينحصرُ في الأعمّ الأغلب في معاشرةِ جَمْهرةِ المثقّفين المُتنوّرِين، لأنّهم ملحُ الأرض وذَهبُها وفضّتها وتفّاحُهُا الحلو أيضاً..
إنَّ المثقّف الحقّ، هو الذي يشارك النّاس في عواطفهم وحياتهم وآلامهم وشؤونهم وشجونهم، إنّه يتواضع ليرتفع وينتصر، وهو الذي يعيش الإنسانيّة العامة، وبعمله الرّاقي هذا، فإنّه “يعمل على رفْع الإنسانيّة إلى شوامِخِ البَهَاءِ الخُلُقي”!؟..
ختاماً، هذا شاعرٌ عربيٌّ، يقول عن أدْعِيَاء الثقافة، المُتَعَالِين على قضايا وطنهم:
“وإنَّ عَــنَاءً أنْ تُفَهِّمَ جَــاهِلاً
فَيَحسَبُ جَهْلاً أنَّهُ مِنْكَ أفْهَمُ”..
التاريخ: الثلاثاء 24- 8- 2020
رقم العدد: 1060