الملحق الثقافي:محمد الحفري *
“سمسق” معناه الياسمين، وهي رواية من تأليف المحامية والكاتبة “فاتن ديركي”، ومن الروايات الفائزة بـ “جائزة التكافل الاجتماعي في زمن الكورونا” للإبداعِ الروائي عام 2020م.
تتّخذ الرواية من دمشق، ومن “حيّ باب توما” على وجه التحديد، فضاءً مكانياً مهمّاً لأحداثها وحركة أبطالها، والمكان يبدو مؤثثاً منذ البداية، بياسمين الشام وبالمحبة وعطرها، ونكهة البيوت والحجارة والبشر الذين سكنوا فوق هذه الأرض.
عالجت “ديركي” في روايتها هذه، ومن خلال سيرة بطلتها “جيهان” مسألة جائحة كورونا، والعزلة التي عاشها الناس بسبب ذاك الوباء الخطير الذي يجهلون الكثير عنه، وهو ما عرف بكوفيد 19. أيضاً، تطرّقت إلى غلاء المعيشة، وإيجارات البيوت والحصار المفروض على البلاد، وأمام هذه الضغوط وغيرها، لم تجد بطلة الرواية “جيهان” من سبيل أمامها، سوى اللجوء إلى زوجِ عمتها الذي يعيش في لبنان، لتستدين منه مبلغاً تسدّده وقت الفرج، لكن مقصدها خاب، والرجل الذي تأمّلت منه خيراً، حاول أن يعتدي عليها، وحين فشل في ذلك، لم يتردّد في إطلاق الشائعات التي تمسّ سمعتها.
تعتمد “ديركي” في نصّ روايتها، على التشويق الذي يشدّ القارئ ليتابع منتجها الإبداعيّ باهتمامٍ شديد، حيث صُعقت بطلتها عندما سمعت بخبر وفاة زوج عمتها، إثر إصابته بوباءِ كورونا،، ولاسيما أن وفاته، كانت بعد أيام من عودتها إلى دمشق.
هذا الخبر، جعلها تعيش حالة من القلقِ والهواجس، وانتظار الإصابة بذاك الفيروس الخطير، وهو ما أضيف إلى الوضع المزري الذي كانت تعيشه، وضيّق عليها الحياة أكثر، مثلما منعها من تأمين الكثير من احتياجاتها، وهو ما قالت عنه الكاتبة: “الاستغلال ينشب أظفاره في وجوهنا، يتآمر مع الإرهاب والقذائف والنيران والبارود والفقر، لضربنا في الصميم”..
ضمن هذا السرد، حضّرت الكاتبة أكثر من مفاجأة، وأكثر من مفارقة، أم ياسمين أو الخالة مريم، على سبيل المثال، هي صاحبة الغرفة التي استأجرتها البطلة، وقد كانت تنوي طردها لو أنها قصّرت ولو لمرّة واحدة في دفع الأجرة، ولكنها في لحظةٍ تحنو عليها وتدخلها منزلها، لتقدّم لها الرعاية الكاملة في مواجهة المرض المستجدّ على حياتنا، والكاتبة بذلك تبرز لنا مسألة التقابل بين شخصيّتين، وهما زوج عمّتها وأم ياسمين، أو الخالة مريم كما أصبحت تناديها، حيث نجد الشرّ مقابل الخير، والعطاء مقابل المنع.
من ناحية أخرى، أدخلتنا الكاتبة بكلِّ سلاسةٍ إلى حكاية تلك المرأة مع أولادها وزوجها، ولكلِّ واحدٍ منهم ما يخصّه، وتلك تقنية مضافة إلى فنّ الروي والتفصيلات الملحّة التي تحتاجها الرواية، وتلك المرأة التي عاملتها بقسوةٍ في سالف الأيام، كانت تطبخ اللحم وتوزّعه للمحتاجين عن طريق الجمعيات الخيرية، وقد اعترفت أن ابنتها “سمسق” التي فقدتها بسبب التفجير الذي حدث في مدينة جرمانا، تشبه البطلة حدّ التطابق، وكانت تريد طردها لهذا السبب، لأنها تذكّرها بابنتها كلّما نظرت إليها، ولأجل ذلك رفعت أجرة الغرفة المستأجرة أكثر من مرة، أما زوجها فقد كانت صدمته كبيرة بفقد ابنته، وعلى الرغم من فقدانه لذاكرته نتيجة ما حدث، بقي يذكر الياسمين فقط، واثقاً من أنه سيدلّه يوماً على نفسه..
الروايةُ منسوجةٌ بخيوطٍ متينة، ولها تفرعاتها الكثيرة، وقد أبقت الكاتبة على بعض أسرارها حتى السطور الأخيرة، حيث تعترف أم ياسمين، بأنها تزوجت من والد بطلة العمل في يومٍ ما، ولذلك نحن أمام شقيقتين لم يتعرّفا على بعضهما، ولم يجمعهما ولو لقاءٍ واحد، ولذلك تخاطبها قائلة: “أنت يا جيهان سمسق الأخرى، بل أنت سمسق التي لم تمت”، ولعل في هذا الكلام ما يبرّر وجودنا كبشر، وبقاء مدننا وحضارتنا والراية التي تنتقل من جيلٍ إلى جيل، كما أن في الرواية الكثير من رسائل المحبة التي أرادت الكتابة الوصول إليها، وتحقيق الغاية المرجوة منها، ومن أهمها أن القلب لن يحيا إلا بنورِ المحبة والسلام، وأن الغفران لا يتأتّى إلا من القلوب والأرواح القوية، ولعلنا في هذا المقام، لا نجد أفضل من الكلمات الأخيرة التي كتبت في صفحات العمل، لتكون خاتمة القول:
“شجرة السمسق لا تنحني ولا تذوي ولا تموت، حتى لو ذبلت بعض أزهارها ووقعت على الأرض. الحياة بالنسبة لها تستمر. كلّما وقعت زهرة ذابلة تفتّحت بدلاً منها عشرات الزهور، كلّما لمسها موت، نهضت في أعماقها حياة”..
هذا الكلام كما نجزم، لا يشير إلى الرواية وأبطالها فقط، بل يشير إلينا ويعنينا، ويعني وجودنا ويمسّ بشفافيتهِ أرواحنا.
* روائي وكاتب مسرحي
التاريخ: الثلاثاء7-9-2021
رقم العدد :1062