الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
يعمد كثير من الناس، الذين يحسّون أنّ لحياتهم خصوصيّة وصدى مختلفاً، إلى كتابة سيرهم الذاتيّة؛ ولا سيّما أصحاب المصالح والنفوذ في ميادين الحياة المختلفة: السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.. ويقومون بذلك بعد انتهاء مسؤوليّاتهم، أو في خضمّها، وفي أواخر أعمارهم، أو في أواسطها.. ويكتب أدباء كُثر سيرهم الذاتيّة أيضاً. وإذا كان الكلام في هذا الحيّز، يتناول الأدباء وسيرهم؛ فلأنّ الآخرين يعمدون إلى هذا الإجراء، أو يكلّفون آخرين بكتابتها؛ سبيلاً لتخليد أعمالهم وإنجازاتهم وذكراهم..
ولكنّ سؤالاً، يصحّ: لماذا يقوم الأدباء بذلك؟! ولا سيّما كتّاب النثر: الرواية والقصّة والمقالة والمسرحيّة! إذا كانت جوانب عديدة، وظروف، وأشخاص، وبيئات، وحيوات، غالباً ما تتوزّع أعمالهم، وقد قيل الكثير في هذا؛ موافقة أو رفضاً؛ فهناك من يقول :إنّ الأديب، يبقى دائراً في فلكِ ذاته ومحيطه، ومعرفته المباشرة للناس والأحوال، في أعماله؛ وإن تنوّعت؛ وإنّ الروائيّ يكتب تجربته الشخصيّة في روايته الأولى وسواها ربّما.. فيما هناك أقوال أخرى؛ من أنّ جوانب كثيرة وكائنات وأحداثاً في حياة الكاتب، ستبقى خارج الأعمال الأدبيّة؛ كما أنّ الخيال الإبداعيّ، يفرض نفسه بهذا القدر أو ذاك؛ وصولاً إلى الخيالِ الأسطوريّ، والخيال العلميّ (ومن المعلوم، أنّ هناك ما يعرف بأدب الخيال العلميّ)؛ إضافة إلى أنّ إرهاصات بما قد يجري في المستقبل، لا يمكن تجاوزها.. وفي الوقت ذاته، نجد من يثبّت في بداية عمله الأدبيّ إشارة أو ملاحظة، تشير إلى أنّ أيّ تشابه بين أشخاص وأوضاع وممارسات وأقوال في الرواية، مع ما هو موجودٌ في الواقع، هو محض مصادفة، وأنّ الشخوص والأفعال مفترضة أو متخيّلة؛ فيما أعدّ ذلك- شخصيّاً- يبقى دليلاً على شيء من الواقع المعيش أو المعروف في العمل، حسب المفهوم: «يكاد المريب يقول خذوني!» وسأبتعد هنا عن التقييم، الذي لا أجد له مسوّغاً، إن كان وقوع هذا التشابه أو عدمه مقبولاً أو منبوذاً؛ لأنّ الكاتب ابن الحياة بظروفها وشروطها وكائناتها وطقوسها، ومن الطبيعيّ والمفهوم، أن يستمدّ مادّته من هذه العناصر وسواها في العيش الواقع والمحتمل، وإنّ ما يذكره الكاتب أو يثيره عارضاً أو منتقداً أو مقرّظاً، ليس مجال اتّهام أو إدانة أو محاسبة أو مساءلة، ولا مجال إشادة أو تميّز؛ من حيث موضوعه فحسب، أو مدى تماثل ما في سطوره أو تقاطعه أو تعارضه مع الواقع، ويجب ألّا ننسى لحظة واحدة، أنّ ما نقرؤه فنّ أو محاولة فنّيّة في هذا الجنس الأدبيّ أو ذاك، ويفترض أن يتناول النقد الجادّ، والتقييم الموضوعيّ، والتحليل الفنّيّ، ما جاء في النصّ؛ من حيث انسجامه الداخليّ، وتوافق عناصره، وجودة البناء، وأساليب القول وأدواته، وما يمكن أن يحمل من أبعادٍ ومديات، وما يحتمل من إثارة أو تأويل أو إرهاص؛ فللكتّاب نبوءاتهم ورؤاهم؛ ولهم ملكاتهم، التي تحلّل، وتستقرئ، وتستنتج…
إنّ المطلوب في العمل الإبداعيّ؛ أيّ عمل إبداعيّ، الصدق الفنّيّ داخل النصّ، وعدم الوقوع في أخطاءٍ وتناقضاتٍ وعدم إقناع، وألّا تكون هناك إشكالات تاريخيّة أو معرفيّة، إلّا إذا كان ذلك مقصوداً من قبل الكاتب، ومن أسس بناء النصّ ورصيده..
أمّا النصوص، التي تدخل مباشرة في السيرة الذاتيّة؛ فهي تتناول حياة الكاتب: طفولته ونشأته وشبابه، والمؤثّرات التي لعبت دوراً في تنشئته، والظروف التي ساقته إلى أحداثٍ ومهن وبيئات ومصائر، أو ساقتها إليه، وكان تعامل معها؛ أسهمت في تربيته، أو أسهم في مساراتها. ومن الطبيعيّ أنّ الكاتب سيركّز، حتّى في سيرته الشخصيّة هذه، على عناصر يراها مهمّة وأساسيّة، وسيتغافل عمّا قد يكون هامشيّاً وفق رؤيته الشخصيّة لا الأدبيّة؛ كما أنّ من المنطقيّ والمتفهّم، ألّا ينسخ الكاتب حياته بجميع تفاصيل أيّامها وفصولها وكائناتها، ولذلك فإنّه سيتغافل عن أشخاصٍ، ويهمل أحداثاً ووقائع، لا يرى أنّها ذات قيمة أو أثر في حياته؛ كما سيتجنّب الحديث عن كثير من العيوب والنواقص، التي عاشها بنفسه وفي نفسه، أو تعرّف إليها لدى كائنات أُخرى، وقد جرى، ويجري كلامٌ كثير عن بعض الكتّاب، الذين «تجرّؤوا» على قول ما لا يقال في العلن؛ من عاداتٍ ورغباتٍ وممارسات شخصيّة أو بيئيّة؛ فيما اقتصر حديث آخرين عن المشرق، أو ما يرونه كذلك في حيواتهم وحيوات معايشين. ويظهر هنا فرق بيّن، بين الذي يقوله الكاتب في نصّه الإبداعيّ، الذي يتنصّل؛ موارباً أو محقّاً من واقعيّته، ويفترض ألّا يحاسب عليه، وبين ما يعترف به في سيرته الذاتيّة المحسوبة له أو عليه، والتي قد تكون إبداعيّة أيضاً في صياغاتها ولغتها وأسلوبها، وهذا أمرٌ آخر في المسألة، تجدر الإشارة إليه..
لكنّ المقصود في الملاحظة أعلاه، أنّ الكاتب يواجَه هنا في السيرة الذاتيّة بوقائع حرّفها أو شوّهها، أو ابتكرها، أو أضاف إليها، وأخرى تغافل عنها وتجنّبها، وقد يجد بعض القرّاء أنفسهم معنيّين بهذا الذكر أو بهذا الإغفال، وقد يحملون عليه، ويحمّلونه مغبّة ذلك، وهنا لا يمكن للأديب أن يقول: لا أقصد، أو نسيت، أو لم أرَ هذا ضروريّاً.. ومن ثمّ يقع في فخّ المساءلة؛ حتّى إن كانت أدبيّة بالمعنى التقييميّ، والعتب واللوم والإحراجات، التي هو في غنى عنها.
أمّا في النصّ الإبداعيّ، فيمكن ذكر كثير من العورات والنزوات والممارسات السرّيّة والعلنيّة، التي عرفها أو تعرّف إليها، أو رويت له، من دون حرج، ويمكن أن يضيف إليها، أو يحوّر فيها ما يراه مناسباً فنّيّاً، أو إغناء للنصّ والفحوى، أو توثيقاً للتاريخ، وإن كان توثيقاً موازياً للتوثيق الحقيقيّ، وغير معترف به، التاريخ الحقيقيّ، الذي لا تنجو مدوّناته؛ هو الآخر، من تأثيرات أهواء ورغبات وضغوط ونفوذ وظروف ومرغّبات أو مهدّدات..
ومن المستحيل تسجيل كلّ شيء في الحياة، من وقائعٍ ومشاعر وعواطف ومواجهات ولقاءات وتوافقات وخصومات…
وهنا نعود إلى السؤال المفتوح: ما الذي يغري الأديب بكتابة مذكّراته أو سيرته الذاتيّة؟! وكيف يُنظر إليها؟! وبأيّ معيار؟! وهل يعتدّ بها في تصوّرات الناس إليه، من خلال كتاباته؟! وهل تعدّ من إنجازاته، أو عثراته؟!
ليس المقصود هنا تلك الشهادات، التي تتناول ظروف الكتابة بشكلٍ عام، أو ولادة نصّ معيّن، وصارت أمراً مألوفاً في النشاطات الأدبيّة، على المستوى المحلّيّ والخارجيّ.
وهنا- أيضاً- لا بدّ من تأكيد أنّ تدوين سيرة للأديب، تختلف فيما إذا كتبها بنفسه، أو كتبها آخرون؛ من دون أن يختلف أمر النقصان أو التحوير أو التغافل؛ بل يختلف الأسلوب، الذي يلحق من يقوم بالكتابة. ومن الطبيعيّ أن تختلف سيرة الأديب، عن سيرة سواه من الذين يرغبون بتخليد مسيراتهم؛ من دون أن ننسى أنّ السيرة المدوّنة ذاتها نصّ أدبيّ، يفترض أن يكون جذّاباً ومشوّقاً وحيويّاً، وتخضع للتقييم الأدبيّ أيضاً؛ وقد يلجأ بعض من غير الكتّاب إلى كتّاب؛ ليقوموا بهذا العمل؛ كما يمكن أن يتمّ هذا بعد رحيل صاحب السيرة؛ ومن الضروريّ أن يكون النصّ ذا مستوى أدبيّ مناسب، خالياً من الأخطاء والعثرات اللغويّة، وهذا يؤكّد أهمّيّة الأدب والمقدرة الأدبيّة، في أيّ عمل كتابيّ إبداعيّ، أو غير إبداعيّ.
* شاعرٌ وأديب وقاص
التاريخ: الثلاثاء5-10-2021
رقم العدد :1066