أعادنا رئيس فرنسا الحالي مانويل ماكرون للبحث في الحالة الاستعماريّة، ومناقشة تأريخ الاستعمار في فترة توصف من حيث الشكّل بغياب الاستعمار وتراجع مكانته في العلاقات الدولية كلّها، فيما الحقيقة والواقع أنّ الفكر الاستعماريّ ما زال قائماً ومعششاً في ذهن وسلوك الكثير من السياسيين ورؤساء الدول الأوروبية، وهذا ما تعكسه مواقف ماكرون الذي ينتمي إلى فرنسا النور والحرية التي تدعي تقديم مبادئ الديموقراطية والعدالة والمساواة للبشرية من خلال أفكار الثورة الفرنسية ومفكريها منذ القرن الثامن عشر.
لكن الرئيس ماكرون سليل أصحاب المبادئ والقيم الإنسانيّة يرفض الاعتراف بالتاريخ الاستعماريّ لبلاده في القارة الأفريقية ونهب ثرواتها وقتل أبناء شعبها مطالباً بتحقيق تاريخي أكاديمي، وهو هنا يشير لعلماء بلاده من الاستعماريين، مؤكداً في الوقت نفسه أن الاعتراف أو الاعتذار عن تلك المرحلة السيئة لن يغير شيئاً، فيما يرى أن تشكيل الجزائر وشعبها ما كان ليتشكّل لولا الوجود الفرنسي واستعمار بلاده للجزائر العظيمة وغيرها من البلدان الأفريقية، فكيف لنا القبول بهكذا أفكار بعد أكثر من مرور مئتين وعشرين سنة على الثورة الفرنسية من رئيس يعتلي رئاسة فرنسا في استمرار جمهوريتها الخامسة، تلك الجمهورية التي دشن عهدها الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول معلناً فيها نهاية العصر الاستعماري والتفكير الاستعماري لفرنسا، وتحولها للتعاون والتنسيق وتقديم الدعم والمساندة للدول الصديقة دون شروط في ظل علاقات ومصالح مشتركة.
الجزائر العظيمة التي صنع شعبها حريته بدماء شهدائه كان ردها حاضراً على المستوى السياسي والدبلوماسي والعملي من خلال إيقاف التسهيلات المقدمة للطيران الحربي الفرنسي واستدعاء سفيرها في باريس وبانتظار من سيكون من ردود تعكس موقف بلد المليون شهيد.
الجزائر العظيمة وشعبها العظيم تقدم المبادئ الإنسانيّة العظيمة في سلوك أبنائها وقرارات حكومتها في كلّ لحظة وفي كلّ موقف، ويعرف أبناؤها معنى المواقف القومية والوطنية والإنسانية دون حاجة لتلقيها من رئيس فرنسي لا يعير فكر فلاسفة بلادها اهتماماً ولا يستطيع أن يعبر عنه، فقد كان الجزائريون أول من يعبر عن تمثل المواقف الإنسانية في سلوكهم على مدى التاريخ، وموقفهم النضالي ضد محتلهم الفرنسي لا ينفصل عن موقفهم في دعم ومساندة الأصدقاء وعدم التنكر لدور الأشقاء والأصدقاء في تقديم المساعدة لهم، ففي السنوات العشر الماضية قدمت الجزائر نماذج إنسانيّة يفترض أن تدفع ماكرون للشعور بالخجل وهو يتبنى الحقبة الاستعمارية لبلاده ويدافع عنها ويعكس فلسفة التمييز والاستعلاء والتفوق للرجل الأوروبي، فيما الجزائر تستضيف أي عائلة تصلها من البلدان التي تعرضت للحروب والنزاعات أو عاشت حالات من الفوضى في المناطق التي تعرضت للعدوان والإرهاب ضمن منظومة أكذوبة الربيع العربي، وتقدم لها كلّ أشكال الدعم والحماية والسماح للأفراد بالعمل والمشاركة في النشاط الاقتصادي وقبول الطلاب في صفوفهم الدراسية والجامعية دون وثائق كاملة، طالما كانوا قادمين من مناطق تشهد نزاعات أو تتعرض للإرهاب المعولم، وهي بذلك لم تتحدث أو تجعل من مبادئها مادة إعلاميّة ودعائيّة لسياساتها ودورها الإنساني، فالجزائر وشعبها اعتادوا العمل والإنجاز بصدق دون ضجيج، كما اعتادوا الصدق والتضحية والمساعدة دون منّ وأذى.
للجزائر في ذمة كل عربي فضل لا ينكر، وللجزائريين فضائل وسلوكيات تعكس تلك الأصالة التي لا يستطيع ماكرون وسواه إنكارها في تصريحات غير مسؤولة، وسأذكر حادثة عشتها تعكس السلوك الوطني المعبر عنه شخصياً كجزء من السلوك اليومي والطبيعي لابن الجزائر العظيم.
في نهاية عام ٢٠١٢ كانت الصين على موعد مع المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعى الصيني والذي حمل التغيير الجديد وأدخل الصين في مرحلة جديدة مع تولي الرئيس شي جين بينغ مهامه الحزبية والعسكرية والسياسية في عملية انتقال طويلة ومثيرة، الأمر الذي ترافق مع دعوة الكثير من الصحفيين العرب والأجانب للمشاركة في ذلك الحدث الهام والاطلاع على خصوصية التجربة الصينية في الحكم والاقتصاد، فكنت واحداً ممن شاركوا حينها في ذاك الحدث بين مجموعة البلدان العربية، وكان من الطبيعي حصول لقاءات مع المسؤولين السياسيين والحديث عن خصوصيةالزيارةإضافة إلى الحديث عن مواقف التنين الصيني في العلاقات مع كلّ دولة على حدة أو مع البلدان العربية بصورة عامة، وكانت معظم اللقاءات ضمن قاعة واحدة أو طاولة حوار واحدة، إلا ذات دعوة لعشاء رسمي لمحافظ مقاطعة هان صوو ( هان جوو)، تم توزيع المدعوين على ثلاث طاولات وفق بطاقات اسميّة لكلّ مدعو، ولم يكن نصيبي شخصياً ضمن الطاولة الرئيسية التي يجلس إليها محافظ المقاطعة وبعض مسؤوليها إضافة للصحفيين القادمين من كلّ من فلسطين المحتلة والجزائر والأردن ولبنان والسعودية وقطر، فما كان من محمد الريفي وكان المستشار الإعلامي للرئيس الراحل عبد العزيز بو تفليقة إلا أن أحضر بطاقته الاسمية الموجودة على طاولته وحمل بطاقتي ووضعها مكان بطاقته قائلاً: أنت صاحب قضية، وبلدك اليوم تتعرض للإرهاب والحرب، وأنت تدافع عنها في هذا المحفل الهام، وموقعك يجب أن يكون على الطاولة الرئاسية لتعرض موقف سورية الحقيقي وتفند الأكاذيب والادعاءات ومواجهة تيار الأكاذيب والأضاليل، وبالفعل كان ذلك وكان حوار الطاولة الرئيسية مركزاً على الشأن السوري والاستماع للوقائع والحقائق لما كان يجري حينها.
ولا أقدّم الحادثة إلا من باب العرفان بالجميل لذلك الشعب المناضل الذي صنع استقلاله وحريته بدماء الشهداء واستمر محافظاً على معانيها وقيمها النبيلة.
معاً على الطريق- مصطفى المقداد