وقتما يكون الدخل ضعيفاً عند العاملين في القطاع العام، ومختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى، ولا يستطيع ذلك الدخل تغطية الحد الأدنى من متطلبات الحياة، فإن أصحاب هذه الدخول ستكون مضطرة للبحث عن أبواب دخلٍ أخرى كي تتمكن من العيش، ولا يوجد أي خيار آخر تلافياً للفقر والعوز والجوع.. “فمن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر”
ومثل هذه الحالة – سواء أكانت عندناأم عند غيرنا- تنضوي على مخاطر عديدة، ولكن المضطر سيخوض المخاطر ليخفف ماأمكن من الاضطرار.
والمشكلة العويصة في هذه الأيام أن صاحب الدخل القوي صار من الصعب عليه أن يُجاري صعود الأسعار المتراكضة بلا خجلٍ ولا حياء، فكيف بصاحب الدخل الضعيف ..؟! هنا سوف يشهق ولا يلحق.. وقد لا يستطيع أن يشهق جيداً.
من مخاطر الدخل الضعيف تعطيل العقل والخلق والإبداع الناجم عن اللهاث وراء زيادةالدخل وتأمين متطلبات الحياة، فلا يجد هذا النموذج أي وقت لذلك، إذ يبقى وقته مضغوطاً باتجاه واحد هو تحسين مستوى الدخل، فقد يضطر الواحد منهم – بل منّا – لأن يعمل في أماكن عديدة متجانسة ومتنافرة أحياناً.. لا يهم.. المهم تكريس الوقت كله لإحداث زيادة في غلّة الدخل، فلا وقت لخلقٍ ولا لإبداع.
ومن المخاطر أيضاً إحداث نوع من التفكك الأسري الناجم عن عدم القدرة على متابعة الأبناء بسبب التعرّض للتعب والإرهاق الذي لا يُتيح لسيد البيت أي متابعة ولا تقييم ولا تقويم سلوكيات.
كما أنَّ من المخاطر ارتفاع نسبة البطالة، لأن الشخص الذي يقوم بأداء عملين أو ثلاثة فهو يساهم عملياً بحجب فرصة أو فرصتين كان يمكن لأشخاص آخرين وعاطلين عن العمل أن يحظوا بها.. ولكنها هكذا تضيع عليهم.. ويبتعدون أكثر عن الفرص الممكنة.
الأنكى من ذلك والأخطر هو اتجاه أصحاب الدخول البسيطة والضعيفة نحو الفساد، عبر البحث عن ثغرات قانونية ينفدون من خلالها ويتمكنون من تكديس الأموال بالرشاوى تارة، وباصطناع التعقيدات تارة أخرى، وأحياناً بالارتجال والقفز فوق القوانين وفتح الثغرات من عندهم، والبراعة بغضّ الطرف عنها كما يحصل مع أغلب المهربين على الرغم من الأطواق الجمركية التي تختفي بقدرة قادر عندما يُحسن المهرب إدارة الحوار مع الجمارك التي تنبعث منه ضوضاءالرشاوى وديّة غضّ الطرف والفساد.
والذي لا يقل خطراً عن ذلك هو تلك الطريقة الفاسدة بامتياز، التي يمارسها الكثيرون من المؤتمنين على انضباط الأسواق والأسعار، وباتت روائحهم الكريهة تزكم الأنوف، لدرجة أن هذا الأمر غدا لا يهمهم أبداً، فالمراقبون التموينيون.. والسياحيون.. والصحيون صارت طرائق فسادهم ورشاويهم تُمارس (على الملأ) دون وازعٍ من ضمير ولا من قلب.. وصارت سياساتهم معروفة للقاصي والداني ” إدفع تنجى.. وإن شئت لا تدفع ولكن تحمّل النتائج” فصفحات الضبوط مفتوحة على مدار الساعة .. ولا نجاة لمن لا يعرف التعاطي مع المعادلة.!.
أجل.. هذا كله- على الرغم من الضمير الفاسد والميت- لم يكن ليتفاقم لولا أن الدخول ضعيفة، وعلى الرغم من أن هذه الدخول لا تبرر أي فساد، ولكنها بالنهاية كانت السبب الذي ربما يكون هو الحاسم في تفاقم الفساد.. فهل يمكننا أن نعي.. ونتوقف عند مخاطر وفساد الدّخل الضعيف..؟.
على الملأ- علي محمود جديد