جفرا ..

الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:

لابدّ أن أبيت هذه الليلة عند صديقتي، في القرية الصامتة إلّا من صوتِ تلك الفتاة التي تهذي طيلة الليل، وتختفي في الصّباح، ولم يجرؤ أحدٌ من أهل القرية على الاقترابِ منها في يومٍ ما.
قرارُ المبيت لم يكن تلبية لرغبةِ صديقتي، بل لشيءٍ آخر كان يمور في داخلي، وعقدت العزم عليه.
حذّرتني مضيفتي من السهر في ساحةِ الدار، إلى وقتٍ متأخّرٍ من الليل، خوفًا عليّ من تلك الجنيّة!..
دَخَلت غرفتها للنوم، وتركتني مع وحدتي وقراري.
تسللتُ خارجَ المنزل القروي الكبير، باتّجاهِ نبعِ القرية القريب من بيتها، والذي أعرف طريقه جيدّاً..
كنت أريد أن أستمتع برؤية الماء المُضاء بسطوع البدر، وشغب النجوم على أديمه.. أسمع زقزقتها وهي تنساب على صدره، كأنها هاربة من مراسم الصباح.
لا أعرف كيف عقدتُ مقارنة بينها وبين تلك الصبية، التي تختفي في الصباح!!..
وصلتُ خلال دقائق إلى النبع، جلستُ على صخرة العشاق «الغلابة» كما يحلو لأهل القرية تسميتها.. أخذتُ أُمعن النظر في توهّج النجوم، وهي تتراقص بين ذراعيّ الجدول بغنجٍ ودلال وفرح، شاردة بصانعِ هذا الكون الجميل والآسر…
سمعتُ صوتها من بعيد، كانت تغنّي بصوتٍ دافئٍ وحزين، ثم كفّت عن الغناء وبدأتْ تتحدّث بكلماتٍ غير مفهومة، ربما مع الأشجار أو مع نفسها.. لا أعرف، ثم عادت للغناء الشجيّ، ثانية.
خيّم الصّمت فجأة على المكان، بعد أن غاب صوتها. بدأت تشتعل الهواجس بداخلي والريبة…
وأتساءل: هل رأتني?.. هل خافت مني وهربت؟.
فجأة، هوَت زقزقة النجوم في دوائرٍ رمادية، إثر حصاةٍ باغتتها.. تسمّرتُ مكاني، وما إن تمالكت نفسي حتى هوت الحصاة الثانية!
نظرت جهة الحفيف، رأيت بعض الأغصان تتمايل بغنج جفرا، غضّة القوام والوَجد..
حافظتُ على هدوئي بصعوبة، وأنا أرتعدُ من مواجهةٍ محتملة مع القادم.
بدأتْ الخطوات تقترب مني أكثر، دقّقتُ بشبحٍ يتحرّك صوبي، وانتظرتُ أن يبدأ الحوار، ويعيد الطمأنينة لهذا السكون الخائف مثلي، وإذ بصوتٍ طفوليٍّ، يقول: لماذا أنت هنا؟.
نظرتُ إليها من خلال ضوء القمر، بعد أن هدأت أنفاسي اللاهثة …
كانت يافعة، أبدعت ربّة البراءة رسم وجهها الملائكي، الفضّي، وشعرها الأسود المنسي على كتفها كيفما اتّفق، كأنه ليل يعانقها بشغف.
عيناها يتلألأ فيهما الدمعُ، مع ابتسامةِ النرجس.
قلت: أنا مثلك.
قالت: هل زوجة والدك طردتك من البيت، مثلي؟.
قلت: نعم.
قالت: هل يخاف الناس من الاقترابِ منكِ، مثلي؟
قلت: نعم.
قالت: هل قتلتْ عائلتكِ طفولتك، مثلي؟.
قلت: نعم.
قالت: أين تنامين عند بزوغِ الفجر؟.
قلت: مثلك!
قالت: في أيّ اصطبل? فأنا أنام في اصطبلٍ لأحد البيوت البعيدة عن القرية، بعد أن يأخذ الراعي أغنامهم إلى المراعي في الصباح..
قلت: لا، أنا أنام عند زوجة الناطور، بعد وفاة زوجها، وهي امرأة عجوز، طيبة، مُحبة للحياة والناس، ما رأيك أن تأتي للعيش معنا؟.
ابتسمتْ بسعادةٍ، وهي تخفي دمعة، أبت أن تذرفها، وقالت:
موافقة، بشرط!.. ألا تضربيني عندما أغنّي، كزوجة أبي..
قلت: لا تخافي، فأنا أحبّ الغناء أيضاً، وسنغني معاً.
اقتربَت مني، مدَت يدها بخوفٍ لتصافحني وتشكرني، ضممتها إلى صدري، وبكيت، كما لم أبكِ يوماً.
لم تكن جنيّة ولا شريرة ولا مجنونة، كما زعموا.
كانت طفلة، وثقتُ بها بإحساسي، كما أثق بجدتي، التي ستُتقن دور زوجة الناطور، ببراعةٍ ومحبة.
كاد الفجر أن يبزغ، وبدأت تصدحُ من مآذن القرية، تلاوة بعض الآيات من الكتاب الكريم.
سرنا بين الحقول، كلّ منا تفكّر بصمتٍ، لم أزعجها بأيّ سؤالٍ.. اكتفيتُ بالاستماعِ إلى ما تتلوه روحها من آلامٍ، لا يشعر بها أو يفهمها، من عاش في عالمٍ، يتغنّى بالظّلمِ والجور والبغض..

التاريخ: الثلاثاء19-10-2021

رقم العدد :1068

 

آخر الأخبار
بحضور وفد تركي.. جولة على واقع الاستثمار في "الشيخ نجار" بحلب أطباء الطوارئ والعناية المشددة في قلب المأزق الطارئ الصناعات البلاستيكية في حلب تحت ضغط منافسة المستوردة التجربة التركية تبتسم في "دمشق" 110.. رقم الأمل الجديد في منظومة الطوارئ الباحث مضر الأسعد:  نهج الدبلوماسية السورية التوازن في العلاقات 44.2 مليون متابع على مواقع التواصل .. حملة " السويداء منا وفينا" بين الإيجابي والسلبي ملامح العلاقة الجديدة بين سوريا وروسيا لقاء نوعي يجمع وزير الطوارئ وعدد من ذوي الإعاقة لتعزيز التواصل عنف المعلمين.. أثره النفسي على الطلاب وتجارب الأمهات عزيز موسى: زيارة الشرع لروسيا إعادة ضبط للعلاقات المعتصم كيلاني: زيارة الشرع إلى موسكو محطة مفصلية لإعادة تعريف العلاقة السورية- الروسية أيمن عبد العزيز: العلاقات مع روسيا لا تقل أهمية عن العلاقات مع أميركا وأوروبا الشرع وبوتين : علاقاتنا وثيقة وقوية وترتبط بمصالح شعبينا المكتب القنصلي في حلب.. طوابير وساعات من الانتظار بوتين والشرع يؤكدان في موسكو عمق الشراكة السورية الروسية للمقاييس عدالة.. لكن من يضبط الميزان؟ الفساد المصرفي.. أهم العقبات التي تعيق التعافي الاقتصادي لوحات دائمة بدل التجريبية للمركبات في طرطوس العلاقات السورية الروسية.. بين التعاون السيادي والمصالح البراغماتية