الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي:
المسرح هو المرآة العاكسة للحياة بكلّ تلاوينها، وعندما ينساب ضوؤه تنتعش أساريرك وتنفرج، فتبتسم له منجذباً إلى أحضانه. وإذا عرَّجت على زواريبه وأزقته، عليك أن تضع هذه اللوحة الفسيفسائية تحت مجهره، لتجد فيها صنوف الفنون والآداب، يحتضنها بعشقٍ سرمديٍّ، فلا تنفلت المحبوبة من بين يديه وهو يحلق عالياً. فالمسرح أبو الفنون، يرصد إرهاصات الواقع بكلّ أيديولوجياته ومجالاته الحياتية، مهما تنوّعت وتعدّدت أساليبه ومدارسه، فهو تجسيدٌ للواقع وهموم الناس ومعاناتهم، التي يطرحها على خشبته في مواجهة مباشرة مع الجمهور، وكأنه يحتكم إليه.
ما نلاحظه ظهور المسرح مرافقاً للشّعر، وإن كان ذلك على مستوى العالم الغربي، فهو أيضاً على مستوى الواقع السوريّ، فكُثرٌ ممن كتبوا المسرح، وكتبوا أيضاً الشّعر، مثلاً: ممدوح عدوان، أحمد يوسف داوود، إبراهيم عبد الهادي بمسرحيته العمالية «الأيدي النظيفة».
أيضاً، الشاعر د.»أيمن أبو الشعر» الذي له دواوينٌ شعرية كثيرة، و مسرحيات منها «رجل الثلج»، وهي من إصدار الهيئة السورية للكتاب، وغلافها عبارة عن هالةٍ نورانية وكأنها مفازة سماءٍ، تقحم بوابة مغارةٍ بجدرانها وعتبتها الصخرية.
هي مسرحية من فصلين، أقرأها بتأنٍّ خشية أن أتلكّأ أمام كاتبها.. أتغلغل بين سطورها، بفصلها الأول ومشاهده الثلاث، ثمّ الثاني ومشهديه، كما تغلغل فيّا حبي للمسرح، منذ الطفولة التي استمتعت فيها بمتابعة عروضه وشخوصه.
في «رجل الثلج» يذكر د.»أبو الشعر» الزمن الذي كتب فيه هذه المسرحيّة، وهو بداية ثمانينيات القرن العشرين، والمكان مغارةٌ في جبلٍ حدوديّ في روسيا، وشخوص المسرحية ثمانية بأعمارٍ مختلفة، مع فرقة استكشاف وصحفيين، وطفل عمره تسعة أعوام.. يلي ذلك، مقترح الكاتب الذي استأنس المخرج به، بالتسهيلات لمعداتِ الديكور في زوايا المغارة، مع المساقط الضوئية، وترتيب الديكور وإعداده للمسرحية.. بعدها، كلمة الناشر للنسخة الروسية. د.»سليم علي» الذي يقدّم لتجربة الشاعر والمسرحي «أبو الشعر» الإبداعية، في مجالاتٍ عدّة، المسرح والشعر والترجمة الادبية، وغيرها مما يقول فيه:
«تلفت مسرحية رجل الثلج النظر إلى عدة زوايا، منها أنه استطاع قراءة خبايا الزمن وإرهاصاته، إذ كتبها أواسط الثمانينات، واستقرئ التغييرات التاريخية القادمة، كما أنه تفاعل مع الشعب الروسي وأحبّه بعمقٍ، حتى إنه كتب هذه المسرحية باللغة الروسية، وفيها يتناول هموم الشعب الروسي ومعاناته، بعيد الحرب العالمية الثانية، فقد تحدّث عن نقائه وطيبته وإيمانه بالمستقبل، في الوقت التي تغيّرت فيه الأمور بعد عدة عقود، وظهر الفساد كآفة خطيرة».. أيضاً، قيّم صديقه «ايتماتوف» المسرحية، متوّهاً إلى أنه بدأ بقراءتها حتى استسلم للنوم، وبعد قليل نهض وتابع قراءتها للنهاية.
تبدأ المسرحية، بظهور رجلين في المشهد الأول، أخذ التعب منهما عند وهدةٍ صخريّة جبليّة قريبة من الحدود، في مساءٍ صيفيّ.. كلّ منهما يحمل حقيبة معلّقة بظهره، ويتعثّران بطريقةٍ دفعتهما للجلوس، وهما يتنفسان بصعوبة. يتناول الحوار بينهما أيام الوصول إلى برلين، وأنهما بمأمنٍ بعيداً عن الماضي، بين بطلين «خرياكوف» الأب، و»بيوتر» الابن المغلوب على أمره، والذي يذهب مع أبيه مكرهاً، بعد أن أقنعه بأنه سيجمع من العملية ملايين الدولارات، لكن الابن الذي لا يهمه هذا الأمر، يخبر والده بأنه لا يهتمّ لما سيقدّمه له قريبه وراء الحدود.
حوارٌ شائق ضمن مشهدٍ، يروي فيه «خرياكوف» لـ «بيوتر» مغامرته في البحث عن رجل الثلج الذي اهتمّ به كثيراً، والذي انتشرت حكاياته عن أناس شاهدوه، وكيف نظّم مجموعة من الأصدقاء للبحث عنه، وتزوّد بكاميرا لتصويره على نفقته الخاصة، لأن المؤسسات لم تقتنع بوجوده، واعتبرت ذلك مجرّد إشاعات.. «بيوتر» الذي كان يستمع، سأل والده، إن كان مقتنعاً فعلاً بوجوده، مثلما إذا كان سكان المنطقة مقتنعين بذلك، فيخبره بأنه موجودٌ ويعيش في المغارات، وبأن سكان المنطقة يصفونه بأنه قوي كالغوريلا، وبأن رؤيته وتصويره، أشبه بحلمٍ يستحقّ جائزة مالية.
أكد الأب أن أحداً لم يستطع رؤيته أو تصويره، وبأنه لبس جلد دبٍ، وحاول أن يكون رجل الثلج، لكي يتمّ تصويره، ولكن لم يستطع ولم يصدقه أحد.
يردّ «بيوتر» على والده: كيف يصدقونك وأنت اعترفت أنك لبست جلد دب، وخدعتهم كي تحصل على المال بأيّ وسيلة؟.. يوبّخه ويطلب منه أن يكفّ عن الاستهزاء والسخرية، وأن يتحدّث بصدقٍ.
بعد أن خلدا للنوم واستيقظا، تبدو لـ «بيوتر» مغارة، يبدأ بدخول المغارة، فتخفت الإضاءة وتنطفئ، استعداداً للدخول في المشهد الثاني، حيث يشير إلى أن في سقفِ المغارة حفرة لدخول ضوء النهار، ورسومٌ بدائيّة تجسّد حالات قتلٍ وشنقٍ مُبهمة..
تتصاعد الأحداث وتتشابك، وتبدأ الشخصيات بالحضور الذي يستدعيها إليه الحدث. يصبح الأب وابنه في مواجهة سكان المغارة: العجوز «كاترينا» سبعون عاماً، وابنتها «فيرا» أربعون عاماً، والحفيدة «أولغا» ثمانية عشر عاماً، وابنها «ايغر» تسعة وثلاثون عاماً.
تمسك العجوز رمحاً ومشعلاً، وايغر فأساً، وأولغا بلطة، تضرب الأب على ساقه وتكسرها. وعند تصاعد وتيرة الحوار، يستجدي «بيوتر» أنه روسي وليس فاشياً، وأنه سيثبت ذلك بحفظه قصيدة روسية، ولولا مسارعته بتأكيد ذلك، لقضى «ايغر» عليه، بوضعِ رأسه على الطاولة، ومناداة أمه لقطعه.. يقرأ «بيوتر» هنا قصائد لـ بوشكين، وقصيدة شعبية روسية عنوانها «أيها الصقيع لا تجمدني».
بعد أن تأكّد سكان المغارة أن الأب وابنه روسيان، تعتذر العجوز لهما، وتقصّ عليهما حكاية تهجيرها من قريتها، وحرقها وقتل أبيها، وهربها مع من معها إلى هذه المغارة. تقول: لقد وعدني إيفان بأن يأخذني لمشاهدة موسكو، وبأنه سيعود بعد عدة أيام.. انتظرتْ ولكن، لقد قتله الفاشيون.
أما «أولغا» فأخذت تصرخ بفرحٍ: روسيان روسيان، ثم عالجت العجوز ساق والد «بيوتر» التي كانت تحتاج أشهراً لتتعافى، و»بيوتر» الذي دخل اللعبة والمباراة مع «أولغا» التي أحبته رغم تحذير والده له، بألا يشغف بها بسبب فشله الأول مع خطيبته، وكي لا يربكهما الأمر في سفرهما القريب إلى ما بعد الحدود، وبأن هؤلاء مجانين.
ينتهي المشهد هنا، وصولاً إلى المشهد الثالث، حيث لا يزال الظلام داخل المغارة التي كان يرقد فيها، «بيوتر» و»أولغا» وبجانبهما الأب، وبينهما ستارة.
تتعقّد الحبكة، والحديث حول هموم «فيرا» ووحدتها وإخلاصها لزوجها الذي كان إنساناً يحبه الجميع، بالمقابل لم يجد «خرياكوف» قبولاً منها، فقد رفضت قبله «ايغر» ورهنت حياتها لابنتها «أولغا».. هنا، يبدأ «بيوتر» بتعليم «أولغا» فنون الحبّ والإبداع، وينمي لها موهبة الرسم التي كانت على جدران المغارة، فأصبحت على الورق، ولا يتوقف رغم تنبيه والده له، فقد وجدهم، يستحقون الحياة الجميلة، لأنهم بسطاء وطيبون كصفحة بيضاء.. يتخلل الحوار هذا، كوميديا مفرحة أحياناً، وأخرى باكية وموجعة وساخرة.
هنا، ينتهي الفصل الأول من المشهد الثالث، فتسدل الستارة على العجوز وفيرا وايغر، وهم يهرعون مردّدين: أين الفاشيون !.
يبدأ الفصل الثاني من المسرحية، بدخول حقلٍ صغير يعمل فيه «بيوتر» بالمجرفة.. يزرع بينما يجلس والده على صخرةٍ بالقرب منه، يبادله الحديث وهو لا يجيب، يتهرّب من الجواب، ومن الردّ على والده الذي يستفهم، أيّ مؤونة شتاءٍ تكفي هؤلاء المجانين؟. إنه لسخف ووهم فقط.
يثبت له «بيوتر» حبهم لبلدهم حدّ الجنون، وأنه حلمهم ويمكن تحقيقه بالأمل والإيمان، وأن مشاعرهم يصعب تفسيرها أو التعبير عنها، فلقد ضحّوا بأنفسهم في سبيل الوطن الذي أخلصوا له.
يتعارك الأب وابنه، فتخرج العجوز المريضة، وتقول فيرا: أترفع يدك على أبيك بسبب العمل.. ينتهي المشهد بسماعِ صوت انفجاراتٍ، تسقط قذيفة قريبة وبعض شظايا الصخور، والكلّ يهرع إلى الداخل.
المشهد الثاني والأخير: داخل المغارة مظلم، بينما «فيرا» و»بيوتر» قرب الطاولة، تقول له: عليك مصالحة والدك.. لكن، بعد احتدام النقاش بينهما والصدامات، أو بالأحرى المفاجآت، فقد صُدم الأب بابنه، واعترف بالأخطاء التي ارتكبها أمام الجميع.
تدخل «أولغا» حاملة الطفلة كاترين، يقبلها والدها فحرارتها عالية، لقد انتقلت العدوى من جدتها إليها، والجدة وضعها سيىء، وسيكون أسوأ دون دواء..
يدخل «بيوتر» مع أبيه في جدالٍ عنيف، يريد منه التخلّي عن ابنته الرضيعة والرحيل، لكنه يحاججهُ بالوضع الذي أدى به إلى هذه الحال، فقد جاء الشتاء وحلّ الربيع، وزرعت البطاطا والجزر، وسُوّرت الحقل بالحجارة كيلا يجرف المطر التربة، ودُفأت الأرانب والفراخ كيلا تموت من الصقيع.
تنضج الشخصيات في هذا المشهد، وتتعلم أكثر، حتى «بيوتر» يتعلم منهم: «الأمر لا يتعلق بالمال، لقد بتُّ أسير الحب. الإنسان يتحدث كثيراً عن الحب وأحياناً يخترعه، ولكن حينما يأتي الحبّ الحقيقي، يتغيّر كل شيء… نعم، الحبّ الحقيقي هو الذي يغير الإنسان. «.
في هذه المعمعة، يدور حديث ناضج بين «بيوتر» ووالده، فيه مكاشفات عن حقيقة الأمور، وما آلت إليه واعتبره الأب سخرية جارحة.. لكن، يُفضح أمرهم عندما يراه صبيّ قريباً من حقول الرمي العسكرية، ويشير إليه برجلِ الثلج الذي يبحثون عنه. يُشكّل فريقٌ يذهب للبحث عنه في المغارة، وأمام هذه المفاجآت، يحاول الخروج مع «بيوتر» لكنه يفشل، وعندما يشعرون بقدوم الفاشيين باتجاههم، يحاول «بيوتر» إقناع العجوز بأنهم روس مثلهم. ذلك أنه لا يريد أن تُرتكب جريمة، ولا سيما أن زمن الفاشيين قد ولّى منذ أربعين عاماً مضى.. يساعدها في فهم الحقيقة التي أخفياها عنهم، فتصاب العجوز بدوارٍ وتصعقها الصدمة، فتسيء حالتها أكثر.
من شدّة الصدمة تموت العجوز، ولم ترَ موسكو الذي وعدها «بيوتر» أن يأخذها إليها كما «ايفان».. يصلُ فريق الاستكشاف، ويدخل الصحفي المصوّر الذي بدا بتصوير الرسوم البدائية، والصحون الترابية، والمذيع يقوم ببثّ الأخبار للمشاهدين عن رجل الثلج، وعن تاريخ الاكتشاف.. أيضاً، عن الصبي الذي رآه مع فريق الاستكشاف، وإعلان ما حقّقه من اكتشافٍ عجيب لرجل الثلج.
لكن، وبعد أن تبيّن الأمر، بتحقيق ضابط الأمن وتسجيل شريطان عن الأحداث المثيرة، اتّضح أن لاوجود لرجل الثلج. مع ذلك، أثار الريبورتاج غير العادي، ما لم يثره رجل الثلج.. تطلبُ «فيرا» من الضابط أن لا يخبر «أولغا» بما حدث، فيأخذ الطفلة «كاتيا» قائلاً لها: «لنذهب إلى موسكو». وهو حلم العجوز الذي تحقّق لحفيدتها.
تُختم المسرحية بنهاية مفتوحة، لم يقمْ الكاتب بتوجيهها إلى اتجاه محدّد، فقد ترك ذلك للقارئ، داعياً إياه بإيجاد الاتجاه الذي يروق له.
التاريخ: الثلاثاء23-11-2021
رقم العدد :1073