الثورة أون لاين _ فؤاد مسعد:
تأخذك كاميرته إلى عوالم شاعرية تنبض بإحساس يخالج الروح ، تتلمس لحظات الحب من عمق الألم ، تنتصر للحياة متحدية رائحة الموت التي كانت تزرعها قذائف الحقد حين تنهال على الناس في الحرب التي شنت على سورية ، ينتقي من تلك اللحظات الأكثر تأثيراً لينسج منها حكاية تضج بالحب الدافئ الذي يحاول الانتصار حتى على الموت.. إنها كاميرا المخرج المبدع عبد اللطيف عبد الحميد في فيلمه (الإفطار الأخير) الذي عرض مساء أمس عرضاً خاصاً في دار الأسد للثقافة والفنون ضمن فعاليات احتفالية (الأيام الثقافية السورية) ، وهو تأليف وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد وإنتاج المؤسسة العامة للسينما ، وسبق أن فاز بجائزة وحيد حامد لأفضل سيناريو ضمن مسابقة نور الشريف للفيلم العربي في الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط.
يأخذ المخرج مشاهديه إلى عوالم تنوس بين الواقعية السحرية وحكاية تجري أحداثها في رحم الواقع المُعاش متحرراً من ضوابط عديدة جانحاً نحو الخيال الذي وظّفه ضمن علاقة الزوجين العاشقين ، هي علاقة حب بين زوجين امتدت في أركانها لتطال جدلية الموت والحياة وتوصل رسالة لخّص الشاب المثقف محتواها بجملة كُتبت على شاهدة قبر الزوجة (أسوأ أنواع الرحيل مَنْ رحل عنك ولم يرحل منك) ، هذا ما يمكن استقراؤه من حكاية تضمّنت حالة إنسانية ووجدانية معشّقة بالحب طرحت أفكاراً وقيماً ومفاهيم انتصرت للحب وللخير وسط الدمار والموت والوجع والحرب ، حملت فلسفتها الخاصة معتمدة على فكرتين الأولى أن الحب هو مولّد ومحرك الحياة ، والثانية أننا لا ندرك قيمة ما لدينا إلا لحظة الفقد والفراق ولكي لا نفقده يُبعث من جديد ، فالزوجة المتوفاة كانت حاضرة في خيال الزوج عبر أغلب مفاصل الفيلم ، هو الحب الذي بات بالنسبة إليه كالماء والهواء .
قدم المخرج فيلمه ضمن أجواء غلب عليها عنصرا الرومانسية والحميمية ، إنها الحميمية في كل شيء ، المكان والعلاقات والشخصيات والحزن والحب ، فيها خلطة عجيبة من البساطة والعمق معاً ، تلك البساطة التي يمكن أن نقرأ بين سطورها الكثير من الأفكار ، حاملة جرعة كبيرة من المشاعر الإنسانية الوجدانية التي تغزو تلك المنطقة المخبأة من الأحاسيس الإنسانية الدفينة لدى المشاهد ، والمخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي سبق ووصف بأنه (سينمائي الروح) يؤكد مرة أخرى اليوم أنه يمتلك ذلك السحر وتلك القدرة في الوصول إلى الأعماق ليلامس العوالم الداخلية للإنسان ويوصل أفكاره وما يريد قوله بكثير من النبل والشفافية ، محققاً مستوى فنياً راقياً وصورة معبّرة أقرب ما تكون إلى صورة مرسومة بريشة تفيض رهافة ، راصداً التفاصيل عبر كاميرا تلتقط روح المشهد ناقلة من خلاله نبض الإحساس بما تتوهج به الروح .
الفيلم الذي تميز بحساسية عالية اعتمد فيه المخرج في أكثر من مكان على اللقطة القريبة التي تظهر خلجات الوجه ودمعة العين ، راصداً تفاصيل تكرس الحالة وتظهر الأدق فيها ، وقد استطاعت كاميرته الهادئة التسلل والتقاط أكثر اللحظات الإنسانية تأثيراً ، أما بطله فقد اختار له أن يكون رجلاً نبيلاً محباً صاحب مبدأ وكرامة يساعد الناس دون مقابل ، وفي الوقت نفسه بدا وكأنه (مقطوع من شجرة) فليس له قريب أو صديق إلا الشاب المثقف الذي وقف إلى جانبه في العزاء ، وفي خضم الخط الأساسي للفيلم برزت خطوط فرعية غذّته طارحة أفكارها ، كمحاولة إبراز العلاقة التي تربط بعض المسؤولين بالناس وكيف ينظر كل منهما للآخر ، فبطل الفيلم خياط عليه الاستجابة والقدوم فوراً عندما يطلبه المسؤول حتى وإن كانت زوجته قد توفيت منذ ساعات ، هي مفارقات تعكس وجعاً يضاعف من ألم فقد الزوجة والشريكة.
حرص المخرج في فيلمه أن يحافظ على روحه وبصمته ، فالكوميديا السوداء حاضرة بقسوتها وألمها وشدة تأثيرها ، أما النهاية فصادمة وكعادته بعد أن جعل المشاهد يحلّق مع الحالة الشاعرية التي حاكها عبر كاميرته أتت الصفعة ممزوجة بالدهشة ومحمّلة بجرعة إنسانية كبيرة ، بقدر شفافيتها بقدر ألمها.