كرّست أيام الفن التشكيلي السوري في موسمها الرابع تقليداً بدأته العام الماضي حين احتفت بالذكرى المئوية لولادة الفنان المعلم نصير، فاحتفت هذا العام بذكرى مرور مئة وعشر سنوات على ولادة الفنان المعلم محمود جلال، حيث افتتح معرض للوحاته في بهو دار الأوبرا، تلاه حفل الافتتاح في القاعة الكبرى بعرض ضوئي للوحاته ومنحوتاته حمل عنوان (محمود جلال 110 سنوات)، بمرافقة عزف حي من الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية لمقطوعة (محمود جلال) التي ألفها خصيصاً للمناسبة المايسترو عدنان فتح الله، عميد المعهد العالي للموسيقا، قائد الفرقة.
لم تكُ ذكرى ولادة محمود جلال سوى فرصة لتكريم يستحقه المعلم الذي ولد في ليبيا في يوم لا نعلمه من عام 1911، ليقف بعد ستين سنة أمام وزير الثقافة في دمشق ليقلده نيابة عن رئيس الحكومة السورية وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، وبين هذين التاريخين حياة حافلة جعلت من محمود جلال واحداً من أهم الأسماء في الحياة التشكيلية السورية، لا لأهمية نتاجه الإبداعي فحسب، وإنما أيضاً لمساهمته البالغة القيمة في انطلاقة وترسيخ الحركة التشكيلية بحكم الدور الذي أداه في المواقع العلمية العديدة التي شغلها ومساهمته الفاعلة في إيفاد الطلاب لدراسة الفن في أوربا، وتأسيس كلية الفنون الجميلة بدمشق.
ظهرت ميول محمود جلال الفنية منذ طفولته المبكرة وهو يعيش متنقلاً بين المدن السورية منذ أن عين والده في سلك القضاء عام 1914 إلى أن استقر في دمشق بعد تقاعده عام 1933، وبدا من أعماله الفنية اللاحقة أن الصور التي شاهدها في السويداء ودرعا وقطنا ودير الزور استقرت عميقاً في مخيلته الإبداعية، غير أن تنقل الأب الدائم لم يكُ الأمر الأكثر أهمية في تجربة الابن، وإنما موقفه المتفهم والمشجع منذ أن سانده يوم اعتبر مختار الحي في دير الزور نشاطه الفني خروجاً عن العرف الاجتماعي، إلى أن قام بإرساله إلى ايطاليا لدراسة الفن على نفقته حيث انتسب ما بين عامي 1935 – 1939 إلى الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة، ودرس التصوير الزيتي على يد الفنان (سيفيرو)، وانتسب في الوقت ذاته إلى مدرسة ليلية للنحت يديرها الفنان (سان جاكو).
صُنِفت تجربة محمود جلال ضمن الكلاسيكية الحديثة، وهو توصيف ينسجم مع تصريحاته عن تجربته، وينسجم أيضاً مع التزام معلمه (سيفيرو) بهذه المدرسة، ومن المؤكد أن مرحلة الدراسة قد حددت مسار تجربته، ولكن من الإنصاف أيضاً القول أن دراسته الأكاديمية كانت تنسجم مع مفهومه لفن التصوير حيث آمن دوماً أن الكلاسيكية خطوة لا بد لكل رسام أن يبدأ بها، وهو لذلك كان فيما بعد أحد الذين يعود إليهم الفضل في تكريس الإيفاد الخارجي لدراسة الفنون دراسة أكاديمية، لكن هذا لم يكُ ليعني أنه وقف في وجه التجديد، بل نراه يعلن صراحة أن التجديد خطوة ضرورية، ونلحظ في المراحل التالية مدى تفرد وتميز أسلوبه، وقدرته على استثمار القواعد الأكاديمية لصياغة تجربته الخاصة التي استطاعت بنجاح كبير أن تقدم أعمالاً فنية ذات خصوصية محلية واضحة، بفضل اتجاهه نحو البيئة المحيطة فكانت أعماله نقاطاً بارزة وهامة في مسيرة التشكيل السوري، سواء أكان الحديث عن لوحاته أو عن منحوتاته وقد أمتلك الكثير منها شهرة واسعة كما هو حال لوحات:(الراعي)،و(صانعة أطباق القش)،و(حاملة الجرة)،ومنحوتات:(عباس بن فرناس)،و(الاتحاد)،و(أطفال عامودا)، و(الثوري العربي)…،فكما في التصوير ففي النحت أيضاً عبر جلال عن أفكار واضحة ببراعة مبهرة، وبروح تجديد تجلت في الأحدث منها وهو ما تحفظه لنا أعمال عدة منها (الأمومة) و(فدائي).
إن أجيال عدة أتيح لها التمتع بإبداعات محمود جلال، ومن حق الأجيال الشابة أن تحظى بذلك أيضاً، وهذا الحق هو واحد من أسباب كثيرة لاحتفال أيام الفن التشكيلي السوري بالفنان المعلم محمود جلال، والذي لن ينتهي مع انتهاء هذه الأيام.
إضاءات – سعد القاسم