الثورة – أديب مخزوم:
بعد إرتفاع أسعار الألوان المستوردة إلى حدود غير معقولة، وجدت الفنانة التشكيلية جوليا سعيد أن الحل يكمن في مواصلة شغفها بالرسم بتراب الوطن، وهذه الطريقة التي اختبرتها وأطلقتها بمبادرتها الفردية ، حملت خلاصة وثمرة تجربتها في هذا المجال، ولقد لاقت الترحيب والإعجاب من جهات رسمية وخاصة، حيث تمت دعوتها لإقامة ورشات رسم للأطفال بتراب الوطن أمام الجمهور، في مراكز ثقافية وأمكنة عامة ( ومن ضمنها الورشة الأولى في كنيسة سيدة السلام بحمص, بدعوة من السيد ريمون مؤسس ملتقى أورنينا في حمص، والفعالية الثانية كانت في حديقة الباسل بطرطوس، أما الثالثة فكانت في مركز ثقافي كفر سوسة بدعوة من الأستاذة نعيمة سليمان مديرة ثقافة دمشق، ورئيسة المركز ، وحين افتتح مهرجان الطفل بطرطوس، أقامت ورشة رسم بالتراب بمبادرتها وتحت إشرافها، وبمشاركة يافعين وكبار، وأيضا أقامت فعالية في مدرسة رياض حجار في طرطوس وغيرها) .
ومشاركات الأطفال تحت إشرافها في الرسم المباشر أمام الجمهور، تعتبر خطوة هامة ومغايرة وخاصة بها، وتستحق المتابعة والاهتمام والتقدير، لاسيما في هذه المرحلة المريرة ، التي تركت تأثيرات واضحة على الأعمال المنجزة . فاللوحة تحمل أحاسيس الأطفال وفرحهم المشرق رغم المعاناة والقلق وأسئلة الحياة الصعبة، وهذا يعني أن الحياة باقية وسط ذاكرة الأمكنة المصابة بالشحوب والسواد والقلق والتوتر والاضطراب .
ولقد تركزت اللوحات الحديثة التي ترسمها، أو يرسمها الأطفال تحت إشرافها ، حول عناصر الطبيعة والبيوت والزهور والوجوه وأبرزت المعاني الوطنية، والخط ، وحملت الأحاسيس الصادقة ، لأن الأطفال رسموها بشكل مباشر أمام الجمهور، وبتدرجات الألوان الترابية، وبكثير من الألفة والمحبة والفرح والسعادة .
وهذه اللوحات الطفولية التي رسمت في فترات زمنية قصيرة، تطرح العديد من القضايا الجمالية والتقنية الحديثة، ولهذا نجد العديد من التيارات الفنية الحديثة والمعاصرة، قد استفادت من العفوية المطلقة الموجودة في فنون الأطفال .
وعلى الصعيد التشكيلي والتقني، ركزت جوليا سعيد في لوحاتها، التي شاركت فيها بالعديد من المعارض في دمشق ومدن أخرى، لإظهار حركة وعفوية الخط الترابي وتداخلاته ، وتجاوراته، وحين يغيب الخط تتحول العناصر في لوحاتها، إلى لمسات ترابية ، يغلب عليها اللون البني الترابي وتمازجاته بتدرجاته المختلفة، واللوحة الترابية تستفيد من بياض اللوحة، بحيث تصبح خلفية البياض جزء من الحوار التشكيلي البصري، الذي يتخلل العناصر ويحدد أماكن النور .
ومع معطيات لمساتها العفوية بدأت لوحاتها (التي تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل ) رغم كل الخراب والدمار والتوتر الذي يلف الواقع الحياتي الراهن ، والذي عاشت فصوله، ولقد شهدت حالات الدمار وعرفت مرارة التهجير ، إلا أن ذلك لم يؤثر على نشاطها واندفاعها ومواصلة الإنتاج والعرض دون توقف أو انقطاع ، لأنها عاشقة مزمنة للفن والإبداع والثقافة.
يذكر أن جوليا سعيد، تقيم حالياً في طرطوس، وهي من أسرة فنية ( والدها أحمد سعيد كانت له تحارب في النحت، ,وأعماله موجودة، وأشقاؤها يعملون في المجال الفني والثقافي ) .
كذا تحمل رسومات الأطفال نفحات من النقاء والفرح والصدق، الذي يجسد بعض مظاهر تأثيرات البيئة على مخيلة الأطفال . وهي تتعامل مع الأطفال بلغتهم الخاصة حيث تدمج اللعب بالفرح وبالحلم ، وتظهر مرونة رموزها التعبيرية التلقائية التي تحكي من خلالها حكايتها مع الأطفال ، كما تستعير أبجديات تشكيلية حديثة مثل الخطوط الارتجالية السريعة ، وتوظفها في رسوماتها الموجهة إلى عالم الصغار والكبار أيضاً . فالطفل هو المستقبل والرسومات المرافقة للحرف العربي أحياناً، تساهم إلى حد بعيد في بناء شخصية الطفل ونموه وعشقه للفن بكل أنواعه .
وحضهم على الرسم بالتراب يشكل فسحة الأمل الأكثر نقاءً في عالم الأطفال، الذين قصرنا تجاههم كثيراً في الماضي ، ومثل هذه المعارض تعوض ما فاتهم ، بعيداً عن هيمنة المؤسسات التربوية المدرسية (الراكدة) والاستعانة الآلية بالمناهج الجامدة وهيمنة تأثير رسوم الكبار التي تسجل نوعاً من الأسر لمخيلة الأطفال، ومواهبهم الخفية التي تركت أثراً واضحاً على بعض تأثيرات فنون القرن العشرين، وكلنا نعرف عبارة بابلو بيكاسو الخالدة ، حين زار معرضاً لرسومات الأطفال وقال : عندما كنت بعمر هؤلاء الأطفال كنت أرسم مثل رفائيل، أما الآن وأنا في التسعين من العمر أحاول أن أتعلم الرسم من الأطفال … مشيراً إلى مدى الصدق والعفوية والتلقائية التي تزخر بها رسومات الأطفال في مرحلتهم التعبيرية الأولى .