كان رئيس التحرير العريق القادم تواً للصحيفة يحفظ في ذاكرته الثرية مفاهيم التقاليد الأساسية لآليات العمل الصحفي، ومنها أنه لا يجوز إرسال مادة إلى المطبعة أكبر من المادة التي ستنشر فعلاً، كما لا يجوز الحذف من المادة الصحفية بعد أن يقوم عامل التنضيد بصفها، لأن في ذلك هدر للوقت والجهد والمال، وهي حالة يعرفها من عمل بالصحافة، وخاصة قبل دخول الكومبيوتر ومعه التنضيد الالكتروني، حين كانت المواد المرسلة للطباعة تصف أولاً بأحرف من رصاص، وتجمع في إطارات خاصة (كليشهات) بقياس صفحة الصحيفة، لتطبع (البروفة) الأولى والأخيرة، وتدقق، قبل أن تصل إلى آلة الطباعة..
إحياء تلك التقاليد استلزم أن يقوم مخرج كلّ صفحة بحساب عدد كلمات المواد التي ستنشر فيها قبل إرسال هذه المواد للتنضيد، وكان الأمر غير مألوف بالنسبة للمحررين والمخرجين، غير أنه لم يكن أمامهم سوى الالتزام بتعليمات رئيس التحرير الحازم، ومرة حين كان المحرر المسؤول عن إحدى الصفحات يقوم بتجهيزها للمخرج دخل عدنان غرفته، وعدنان واحد من الأشخاص الذين يملؤون المكان صخباً، لكن أحداً لا يعرف له عملاً محدداً، أو مفيداً، طلب من المحرر إعطاءه مواد الصفحة ليقوم بإيصالها إلى المطبعة، لكن الأخير قال له إن المخرج لم يحسب المواد بعد، فأجابه على الفور أنا سأعطيها للمخرج وأخذ المواد وخرج مسرعاً، وبعد دقائق قليلة كان رئيس التحرير يتصل بالمحرر ويعاتبه على إرسال مواد صفحته إلى المطبعة قبل أن يقوم المخرج بحسابها!.. فوجيء المحرر لكنّه استجمع نفسه ليقول لرئيس التحرير: لقد أخذ عدنان المواد من عندي بحجة إيصالها إلى المخرج، لا ليعرضها أمامك على أنها مخالفة للتعليمات!!..
لم يظهر رئيس التحرير أي رد فعل، وكتم المحرر غيظه، أما عدنان فقد ضحك في سره لاعتقاده أنه نجح بتشويه صورة المحرر أمام رئيس التحرير الجديد، لكن فرحته لم تطل فبعد وقت قصير عزل رئيس التحرير عدنان من كلّ مهامه، تاركاً إياه يتسكع بين غرف وممرات الصحيفة حتى نهاية سنوات خدمته، محدثاً الناس عن إنجازاته المهنية الوهمية، وهم يستمعون إليه بلا تعليق وبلا مبالاة، وبسخرية دفينة يخفيها إيحاؤهم بتصديقه..
فريز كان أسعد حظاً من عدنان، ربما لأنه أذكى، أو لأن أذاه أقل، غير أنه يشبه حاله في تواجده الصاخب في أماكن كثيرة دون أن تعرف له عملاً محدداً ، لكنك إن استمعت إليه اعتقدت أنه هو من يفعل كل شيء.. والعارف بكلّ شيء ..ولوحده.. فريز كان متواجداً لسبب مجهول في مهرجان فني تستضيفه إحدى القلاع الأثرية العملاقة في بلدنا، وكان القائمون على المهرجان حريصين على أن يبدأ حفل الافتتاح بالوقت المحدد له تماماً، فحسبوا بدقة الوقت الذي يلزم قطع المسافة بين باب القلعة، والمسرح داخلها حيث سيقام الحفل فوجدوه عشرين دقيقة، فأعلنوا أن الباب الخارجي سيغلق قبل نصف ساعة، وأرسلوا السيارات لتجلب الضيوف قبل وقت كافٍ، وأنجزوا كلّ ما يلزم ليكون كلّ شيء جاهزاً في الوقت المحدد، وهذا ما حصل فعلاً..
صباح اليوم التالي كان الجميع يتحدثون بإعجاب عن دقة التوقيت ونجاح إدارة المهرجان في ذلك، حين انبرى فريز بالقول:
– حين رأيت سيادة الوزير جالساً في مقعده ركضت إلى الكواليس وطلبت منهم أن يحاولوا بدء الحفل بالوقت المحدد !!..
في ميادين الرياضة يصفون عدنان وفريز وأمثالهما بـ (الحويصة)..مع أن الوصف الأدق هو (الطحالب) ..وهو وصف ينطبق على كثيرين في مجالات متعددة لا عمل لهم إلا التسلق على جهود الآخرين.. أو بخسها.. أو تشويهها..
إضاءات – سعد القاسم