الملحق الثقافي:
على امتداد المكتبات العربية التي ازدهت حيناً بما يترجم ويؤلف، لن تجد كتاباً ينافس أعمال دوستويفيسكي التي ترجمها إلى العربية المترجم البارع والدبلوماسي السوري سامي الدروبي، عالم التربية والنفس والمفكر الذي ترك أثراً عميقاً في كل عقل عربي، وحين نتحدث عن الترجمة من الآداب العالمية، إلى اللغة العربية لابد أن يكون سامي الدروبي هو الحاضر الأول، مع أنه لم يترجم مباشرة من الروسية، إنما من لغة وسيطة، وحسب ما يكتبه ويراه الكاتب المصري : سيد محمود في موقع العين الاخبارية فإن:
كل القراء العرب من هواة الأدب الروسي يشعرون أنهم مدينون بشكل شخصي للمترجم السوري الدكتور سامي مصباح الدروبي (27 نيسان 1921-12 شباط 1976)، الذي تولى تقديم علامات هذا الأدب، وورطهم في حب دوستويفيسكي، وبعض أعمال تولستوي وبوشكين وميخائيل ليرمنتوف.
فعل الدروبي ما فعله انطلاقاً من قناعة وإيمان بجدارة تلك النصوص، ولا يزال اسمه بعد سنوات من وفاته أقرب ما يكون إلى «علامة مميزة» أو «شهادة ضمان» تشير إلى جودة المحتوى.
وكان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هو صاحب الوصف الأهم للدروبي، حين كتب «إن سامي الدروبي مؤسسة كاملة».
أنجز الدروبي مهمته كمترجم فذّ وسط زحام وانشغالات عمل لا ينتهي وخبرات توزعت بين الجامعة وكواليس العمل الدبلوماسي، فقد عمل أستاذاً جامعياً للفلسفة في حمص، ثم عميداً لكلية التربية بجامعة دمشق فوزيراً للمعارف، ثم سفيراً لسورية في يوغسلافيا، مصر، إسبانيا، والمغرب، ومندوباً لسورية في جامعة الدول العربية في القاهرة التي كانت أقرب المدن لمزاجه وقلبه.
في إحدى الأمسيات دعيت أسرة الدروبي إلى عشاء في بيت السفير السوفييتي فينوغرادوف، فقال لزوجة الدروبي مندهشاً «عندما قيل لي إن السفير السوري أنهى ترجمة 18 مجلداً لدستويفسكي رغم أعبائه كسفير عربي بالقاهرة تعجبت، وقلت أسألكِ: كيف وجد الوقت؟»، فكانت إجابة إحسان أن زوجها يوزع وقته بدقة فائقة بين عمله الرسمي بالسفارة والبيت، وأن دستويفسكي ضرتها.. وبعد أقل من شهر زارهما السفير السوفييتي في عيد رأس السنة وحمل لهما هدية، لوحة زيتية لدستويفسكي، وقال مازحاً «أرجو من السيدة إحسان ألا تزعجها هديتي.. الضرة»، وانفجروا ضاحكين من تحول دستويفيسكي لجزء من حياتهما.
يقول الدروبي في أحد لقاءاته «شعرت أن بيني وبين دوستويفيسكي أنساباً روحية، ووجدت نفسي فيه، وصرت أتحرّك في عالمه كتحرّكي في بيتي، وأعرف شخوصه معرفة أصدقاء طالت صحبتي معهم، حتى لأكاد أحاورهم همْساً في بعض الأحيان».
كانت إحسان البيات شريكة العمر والتجربة والترجمة، فعندما تزوجت الدروبي طلب منها ترك عملها بالإذاعة والعمل معه كسكرتيرة وزوجة، وكانا يترجمان معاً، فهو يمسك بالكتاب في أصله الفرنسي يقرأ، وهي تكتب ما يمليه عليها.
وفي تجربة الدروبي الكثير الذي يفسر ولعه بدوستويفسكي، الذي يصفه الجميع بأنه أهم خبراء علم النفس، فالدروبي الذي جاء من مدينة حمص إلى القاهرة في الأربعينيات لدراسة الفلسفة وعلم النفس في جامعة القاهرة، قبل أن يحصل على دكتوراه في التخصص، جاء لمصر وأهّل نفسه للتعاطي مع مدينة كانت تعيش «سنوات الغليان» قبل ثورة 1952، وخلال سنوات دراسته بالقاهرة ارتبط بصلات وثيقة مع زملائه من الطلاب الذين مثلوا جيلاً ضم أسماء مثل محمود أمين العالم ويوسف الشاروني ومصطفي سويف وبدر الديب ولطيفة الزيات، وكانوا جميعاً من الأدباء الراغبين في التغيير، ولديهم طموح بكتابة إبداعية مختلفة تكسر السائد والمألوف.
وحين باشر الدروبي نشر ترجماته خلال حقبة الخمسينيات والستينيات وجد دعماً وترحيباً من أقلام كبيرة، في مقدمتها أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش وأحمد حمروش وآخرين كانوا يعرفون عنه ولعاً استثنائياً بدوستويفسكي، الذي ترجم له أكثر من 11 ألف صفحة، وهو مريض في القلب مرضاً لا يمكّنه من الاستلقاء على سريره أثناء النوم، كما أنجز 5 مجلدات من المؤلفات الكاملة لتولستوي، والتي يصل عدد صفحاتها إلى 5 آلاف صفحة، وهو في صراع بين الحياة والموت.
وعلى الرغم من أنه كان يترجم عن الفرنسية وليس عن الروسية إلا أن دقتها وعذوبة لغتها دفعت «دار التقدم» الروسية إلى اعتمادها بعد تنقيحها قليلاً في ضوء النصوص الأصلية، من خلال المترجم المصري الراحل أبوبكر يوسف، الذي رأى أن ذلك أفضل من إعادة ترجمتها عن الروسية مباشرة، ولا تزال هي الترجمة العربية الوحيدة والأكثر قبولاً لدى القراء، الذين كانت مقدمات الدروبي لتلك الأعمال مداخلهم الأولى لاكتشاف دوستويفيسكي والتعرف على عالمه الخصب.
ويمكن القول إن دستويفسكي خطف الأضواء من ترجمات الدروبي الأخرى ومن مؤلفاته أيضاً، فقد ألف كتاباً بعنوان «الرواية في الأدب الروسي»، صدر بعد وفاته بـ6 سنوات 1982م عن دار الكرمل في دمشق.
وترجم رائعة تولستوي «الحرب والسلم»، وأهم عمل لليرمنتوف «بطل من هذا الزمان»، ولبوشكين «ابنة الضابط»، ومؤلفات الأديب اليوغوسلافي البوسني إيفو أندريتش ، منها «جسر على نهر درينا»، قبل أن يحصل صاحبه على نوبل.
بلغت ترجمات الدروبي 80 كتاباً، منها أيضاً ثلاثية الكاتب الجزائري محمد ديب «الدار الكبيرة، الحريق، النول (عن اللغة الفرنسية)»، وترجمته المهمة لكتاب «الضحك» للفيلسوف هنري برجسون، لكن ما خلده حقاً هو دوستويفسكي.
التاريخ: الثلاثاء25-1-2022
رقم العدد :1080