الثورة – أديب مخزوم:
” سرديات الخوف ” هو عنوان معرض الفنان التشكيلي محمود الجوابرة، الذي يقام حالياً في صالة عشتار بدمشق، متضمناً مجموعة من لوحاته التي تشكل امتداداً لخطه الأسلوبي الذي ظهر في معارضه السابقة. فهو يحتفظ بغرائبية العناصر الإنسانية والحيوانية والصامتة في لوحاته التشكيلية ، ويتحرر من ثوابت ومرتكزات نزعة تصويرية واقعية وكلاسيكية ، ويجسد الأشكال والرؤى الغرائبية في فضاء المنظر الطبيعي والبحري ، وهذا لا يمنعه من العودة بين الحين والآخر إلى الصياغة الواقعية مثل لوحة الأزهار والثور وغيرهما .
وهو يبدو أكثر تحكماً بإبراز تداخلات العناصر الغرائبية وإظهار إضاءاتها وحركاتها المأخوذة بروحية الإبقاء على التآلف العفوي والعقلاني بآن واحد . حيث يختصر الأشكال والعناصر ويعمل على تحويرها بحيث تبدو قريبة من العناصر والأشكال الأسطورية ، وهو أكثر من ذلك يجعلها سابحة في فضاء المنظر الطبيعي الخلوي، بينما يظهر الثور في رباعيته بهيئته الغرائبية فوق تجمعات الأجساد البشرية .
ومن الناحية التقنية يتعامل مع الألوان من خلال إبراز سماكاتها ودلالاتها المرتبطة بالأسطورة وطقوسها . هكذا تبرز تنويعات التداخل الميثولوجي بين المشهد الطبيعي أو الأشكال الإنسانية والحيوانية المحورة، وهنا تتجلى حركة الإشارات، في العودة إلى منابع الحضارات القديمة لصوغ الرؤى التشكيلية الجديدة .
فالبحث عن مناخات مختصرة ومحورة لتكاوين الأشكال الإنسانية والحيوانية والعناصر الأخرى شكل في لوحاته هواجس لاختبار الإيقاعات التشكيلية المتداولة في الفن الحديث، والقائمة على إلغاء الثرثرة التفصيلية، وإعطاء أهمية قصوى للإيقاع اللوني، والإبقاء على جوهر الحركة العفوية، التي تجسد روح الشكل التعبيري بعد إزالة تلافيف قشوره الخارجية .
فاللوحة هنا تشكل مدخلا لرؤية أجواء القلق والخوف، الذي عشنا فصوله اليومية خلال الحرب، إنها النص التشكيلي المشرع على كل الاحتمالات، والقادر على استقطاب تعابير الوجوه المشدودة ليوميات الموت الأسود، وحرائق المدن وحكايات المخاض العسير المقروء في الرموز والإشارات التي تفيض بها اللوحة.
إنها صدى لمرايا الدمار والخراب والأهوال والمآسي والويلات والأحزان المتواصلة. وأشلاء المدن والقرى ومتاهات الأحلام المفجوعة وسط الدمار والخراب وأشباح الموت. فقد جاء عنوان ( سرديات الخوف ) متوافقاً مع الأجواء المرعبة ، وحمل دلالات الوجع القادم من شوارع المدن والقرى المدمرة بزلازل الحروب دون رأفة أو رحمة. هكذا تبرز رائحة الحقيقة وهمجية العنف المجنون لهذا العصر في لوحات محمود الجوابرة، إضافة إلى أننا لمسنا في بعض أعماله اصرارا على استخدام بعض الرموز مثل الطيور ( وخاصة الذي يشبه طائر الفينيق ) والحصان وغيرها، وهذا التداخل بين أدوات الشر ورموز السلام والولادة الجديدة، يمنح اللوحة فسحة من التفاؤل رغم كل المآسي والويلات. ومن خلال تكرار التعامل مع هذه الرموز يريد أن يكون شاهداً على مرحلة عاش فصولها وتركت أثرا على حياته ولوحات معرضه السابق والحالي، وهي محاولة لالتقاط تفاصيلها ومآسيها واضطرابها اللامعقول. فحتى لا يتحول هذا الخراب والدمار والموت إلى كابوس دائم، يرسم الحلم بالمستقبل برموز الولادة الجديدة ويترك فسحة أمل في لوحاته حتى لا يموت العشب. كما يخفف من حدة السواد ويمنح العين المزيد من الأمل بعودة الحياة إلى الوجوه الذابلة والمكسورة والممحية والغائبة وسط الدخان الأسود لحرائق المدن. وهو بذلك يعمل على إيجاد نوع من الموازنة والمواءمة بين الجانب المأساوي، المتمثل بالمرأة العارية، التي ترمز للأرض المقهورة والمستباحة، وبين الجانب الذي يمنحنا فسحة من الأمل في بعض الرموز، كإشارة للانعتاق والقدرة على الولادة الجديدة والخروج من شرنقة الخوف والمآسي والأحزان المتواصلة في عمق حياتنا اليومية .