منذ سنوات صارت كثيرة، تكرّس وصف شهر رمضان بشهر الدراما التلفزيونية، بحكم وفرة الأعمال الدرامية التي تعرض فيه، أو للدقة، الأعمال التي تنتج خصيصاً لتعرض فيه وهي في واقع الحال مجمل الدراما التلفزيونية المنتجة خلال السنة مع استثناءات نادرة تتعلق بالأعمال التي لم تنجز في الوقت المناسب – لسبب أو آخر – وبالتالي فاتها اللحاق بالموسم الدرامي.
وصف آخر شاع حول الأعمال الدرامية التلفزيونية التي تعرض في رمضان وهو (المائدة الرمضانية)، في الحقيقة لا أعلم من الذي أطلق هذا الوصف، إلا أنني مقتنع أن من فعل هذا قد أحسن الاختيار بحكم وفرة نقاط التلاقي بين المائدة الدرامية، ومائدة الطعام (الانتقامية) التي ما يزال كثيرون – رغم الضائقة الاقتصادية – يكرسون كلّ مجهودهم في شهر الصوم (وقبله) كي تكون مكتظة بما لا يقدرون على استهلاكه، فمظاهر السلوك الاجتماعي العصابي التي ترافق (الاستعدادات) لشهر الصوم توحي بالتحضير لمواجهة (مجاعة)، لا استقبال موسم زهد وتقشف – كما يفترض في أي صيام – فيبدو كثير من الصائمين، وهم يتأهبون لاجتياح مائدة الطعام المكتظة، رغم الارتفاع الخيالي في كلفتها، وكأنهم ينتقمون من الساعات القليلة التي حرموا فيها (طائعين) من الطعام، وكذلك هو الحال بالنسبة للدراما التلفزيونية التي تكتظ بها الشاشات العربية خلال الشهر الكريم، بعد ما يشبه الانقطاع خلال أحد عشر شهراً، لتعم حالة متابعة عدة مسلسلات في اليوم الواحد، أو في الأمسية الواحدة، وتخسر المشاهدة التلفزيونية واحدة من أكثر حالاتها دفئاً وحيوية.، وقد يكون مفيداً تذكر الصدى الاجتماعي الذي كانت تحدثه المسلسلات السورية الطليعية في زمن ما قبل الفضائيات وابتكار الموسم الدرامي التلفزيوني.
الأمر لا علاقة له بأي شكل من أشكال الـ (نوستولجيا)، فللماضي مقوماته وأسبابه التي قد لا تتحقق في الحاضر، أو تتناسب معه، وإنما يتعلق الأمر بمحاولة الإشارة إلى أثر ذلك العرض الدرامي المكتظ، وتلك المتابعة التي تتخطى لا المعتاد فحسب، وإنما المنطق أيضاً، قد يكفي الأخذ بعين الاعتبار ما سيتذكره هذا الجمهور من عشرات المسلسلات التي تعرض خلال ثلاثين يوماً، هذا إذا أسعفته ذاكرته خلال موسم العرض ذاته، ولم تختلط أحداث المسلسلات بعضها ببعض، خاصة بوجود ذات الممثلين في أكثر من مسلسل، المشاهد الذي يقع في حيرة من أمره بين الخيارات الوفيرة المتاحة له، على الأقل في الأيام الأولى من رمضان قبل أن يحسم خياره باتجاه مجموعة المسلسلات التي سيتابعها، لن يستطيع بكلّ الأحوال متابعة كلّ ما أنتج لمصلحة الموسم الرمضاني، وحين جرى الحديث عن أن الموسم التلفزيوني الرمضاني قد أصبح منذ سنوات عدة أشبه ما يكون بمهرجان للدراما التلفزيونية فإن تلك الإشارة لا تقتصر فقط على الجانب الإيجابي (الاحتفالي)، وإنما تتضمن الجوانب السلبية للمهرجانات، التي تسقط بالنتيجة الكثير من ميزات كلّ عمل على حدة، في زحمة التنافس على المواقع الأولى، والجوائز الأولى، سواء كانت رسمية أم تصويتية، وبدلاً من الحوار الذي كان يسود فيما مضى حول مقولة العمل الدرامي التلفزيوني، وأداء الممثلين، ودور المخرج والفريق الفني، صار الحديث مقتصراً عن أي من الأعمال المعروضة هو الأفضل، من وجهة نظر كلّ متابع، وكثيراً ما تلبست روح مشجعي أندية كرة القدم متابعي الدراما التلفزيونية الرمضانية.
استدراك الأمر أصبح غاية في الصعوبة بحكم المصالح الكبيرة والمتشعبة لشركات الإعلان والمنتجين والمحطات التلفزيونية، والكثير من الجهات الإعلامية، فهذا الحال لم يصنعه المشاهدون، وإنما محطات التلفزيون العربية التي أوجدت عرفاً خاصاً يتمثل بدفع سعر أعلى للمسلسلات التي تعرض في شهر رمضان، مما دفع المنتجين على التنافس لتسويق أعمالهم للعرض في هذا الشهر، وهذا ما أوجد في الواقع موسماً للإنتاج الدرامي يبلغ ذروته في الأشهر القليلة التي تسبق حلول شهر رمضان.
إن التنافس – المطلوب بين صناع الدراما التلفزيونية – للارتقاء بها، يؤدي في واقع الحال إلى ازدحام غير عادي، على شاشة رمضان، للدراما المنتجة حديثاً، وبالمحصلة فإن الدراما التلفزيونية التي تحظى بحفاوة استثنائية في (مهرجانها الرمضاني السنوي) يلحق بها من الخسائر في هذا العرض (المكتظ) أكثر بكثير مما تحققه من أرباح، وليس الحديث هنا عن الأرباح المادية للمنتجين، ولا عن الأرباح الخيالية لشركات الإعلان والمحطات الراعية، التي تتناسب طرداً مع ارتفاع قدرتها على الترويج، وإنما عن الخسائر المعنوية للجوانب الإبداعية و(الثقافية)، ففي زحمة العرض، وشراء كلّ ما ينتج، تُسقِط أعمال غير قليلة الشروط الإبداعية والفنية، وتفقد غيرها فرصة التقويم السليم، ويخسر معظمها فرصة المتابعة المتأنية والدقيقة، والتفاعل مع محيطها.
بعد انتهاء الموسم الرمضاني بيوم واحد تصبح جميع الأعمال التي عرضت فيه مثل الثياب التي انتهت موضتها، أو سبق استخدامها، لكن الخسارة لن تصيب لا المنتج ولا الموزع ولا المعلن ولا العارض، فهؤلاء قد حققوا أرباحهم التي سعوا لأجلها. إنما تكون الخسارة الناجمة عن حصر عمل سنة كاملة في شهر وحيد منها. من نصيب الكاتب والمخرج والممثل والمشاهد.. وبالدرجة الأولى من نصيب المجتمع.
حين تخلى السنة (باستثناء شهر يتيم) للدراما التلفزيونية الوافدة (المدبلجة)، ولما يمكن أن تحدثه من تأثير في إعادة صياغة ثقافة المجتمع العربي.
إضاءات- سعد القاسم