الثورة – هفاف ميهوب:
“انعزل قدر ما تشاء لتصبح أقوى، مهما رأيت من الوحدة جحيماً لا يطاق، فهي أفضل بكثير من الأقنعة المتعددة للبشر”.
لم يطلق الأديب الروسي “دوستويفسكي” هذه المقولة، إلا بعد أن عارك الحياة التي تفاقمت معاناته فيها، ليكتشف وبعد عمرٍ من الهزّات والانهيارات والاعتلالات الجسدية والاجتماعية والنفسية، بأن عزلته هي من ساعدته على تقديمِ أعمال عظيمة، روى من خلالها قساوة حياته وتجاربه.. رواها للورق وللقرّاء الغرباء، الذين باح لهم بما لم يبح به حتى للمقرّبين، ممن صرّح بأن البوح لهم أمرٌ صعب جداً، وبأن: “البوح للغرباء متعة وأمان، لأنّ كل ما ستقوله سيذهب معهم، ولن يفهموا سوى ما تريد، سيقفون بجانبك ويدعمونك، يضحكون ويبكون معك، لأنهم لا يعرفون أحداً من الحكاية كلها إلا أنت، فأنت بطلهم”..
لم يكن “دوستويفسكي” هو الأديب الوحيد الذي عُرف بميله لعالم العزلة، وبقضاء أغلب الأوقات مع الكتابة والورق، فكثرٌ جداً من الكتّاب والمبدعين، فضّلوا الإقامة في هذا العالم، الذي وجده الروائي الأميركي “همنغواي”: “وطن الأرواح المتعبة”، والفيلسوف الفرنسي “إميل سيوران”: “النور الذي يبدّد ظلامَ بشرٍ كلّما عاشرناهم اسودّت أفكارنا”.
حارس العزلة هذا، وكما أطلِق عليه، كسواه من حرّاسها الذين امتشقوا إبداعاتهم، سلاحاً انتصروا به على عالمٍ أشاحوا عنه معلنين إعلانه: “علينا ألاّ نؤلّف الكتب، إلا لنقول فيه ما لا نجرؤ على البوح به لأحد”.
نعم، لقد كانت العزلة، وعلى مرّ التاريخ، هي ما عشقه وفضّله غالبية مبدعي العالم، فمنهم من سعى إليها للـ “البحث عن الزمن المفقود” الذي عاش الروائي الفرنسي “مارسيل بروست” حتى نهاية حياته يبحث عنه، ومنهم من اتّخذها سبيلاً إلى ما اعتبره الكاتب التشيكي “كافكا”: “هدوء يتخطّى إدراك البشر”… منهم أيضاً، من لجأ إليها للخلاص من شرور وأحقاد البشر، وهو ما فعله شاعر وأديب ألمانيا “غوته” وكذلك حكيمها وفيلسوفها “نيتشه” الذي قال يصفها: “العزلة مرحلة ضرورية لتركيز قوى الذات وتجميعها، وللحفاظ على الوعي الفردي، لأن بقاء الفرد بصورة مستمرة مع الصخب، يشتّت وعيه”.