كشف مسار الأحداث الأخيرة في مدينة القدس المحتلة عن تطور نوعي في اتجاهين، إذا كان الأول يثبت مكانة القدس في الوجدان الجمعي، الفلسطيني، العربي، والإسلامي، فإن الثاني ثبت قدرة معركة القدس “الأقصى” على رسم ملامح المرحلة الجديدة في الصراع.
معركة الأقصى الحالية الجارية منذ مطلع نيسان، وما سبقه من عمليات فدائية في شهر آذار الماضي، على الرغم من أنها تجري وسط انشغال العالم بالحرب في أوكرانيا وبتداعياتها على أوسع نطاق، فقد استطاعت أن تعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأن تفرض الكثير من الاستحقاقات على المجتمع الدولي بدلالات قوة الحق الفلسطيني كأقدم حق تجاهله العالم لعقود طويلة بدفع غربي أميركي لإماتته، لكنه لم يمت، ولن يموت، بل إن معركة الأقصى المبارك لم تتمكن فقط من إحياء القضية بل عززت صورتها ومكانتها بإعادتها إلى رأس جدول الأولويات في الأمم المتحدة.
إن الحضور الفلسطيني القوي خلال الأسابيع الماضية في الساحة والميدان بمواجهة الاستفزازات والاعتداءات الإسرائيلية، وإن تصميم الشعب الفلسطيني على ردع وإسقاط الإجراءات التهويدية للأقصى والمدينة المقدسة، إنما يؤكد أن المعركة معركة تاريخية تتجاوز في حيثياتها ما هو تقليدي سواء لجهة الاشتباكات التي يضعها البعض في إطار الفعل ورد الفعل، أم لناحية الردع الذي ما كان يحسب فيه حساباً للقوة المقاومة كقوة ردع لآلة الحرب الإسرائيلية.
الكيان الإسرائيلي اليوم باعتراف صحافته وأوساطه الحزبية والسياسية، يعيش حالة من التخبط، الصدمة، الأزمة والإحباط الشديد، تجلت مؤشراتها الأولية باهتزاز ائتلاف نفتالي بينيت، وبتراجع ما كان يزعم من امتلاكه قوة تستهين ولا تقيم وزناً للفلسطينيين، ذلك حتى وقت قريب، أو على الأقل حتى ما سبق تجربة معركة سيف القدس ٢٠٢١.
مبالغة الكيان الإسرائيلي وقطعان مستوطنيه بالاستفزازات الأخيرة التي رافقت احتفالاته بما يسمى”الفصح اليهودي” ربما كان يراد بها إجراء اختبار لردات الفعل على محاولة تدنيس الأقصى بدم القرابين وباقامة الصلوات التلمودية، ليبني عليها خطواته في تغيير الواقع التاريخي والقانوني.
وربما كان يخطط الكيان الإسرائيلي لاستغلال الانشغال العالمي بأوكرانيا، وعلى خلفية الخطوات التطبيعية مع بعض الأنظمة العربية، لتثبيت حالة في القدس والأقصى لطالما سعى لها تحت عناوين تلمودية، غير أن خضوعه بمنع ذبح القرابين، وبمنع مسيرة الأعلام باتجاه باب العمود، كان التعبير الأدق لسقوط الاختبار، ولتهيبه خوض المواجهة التي قد لا تكتفي بتذكيره بإخفاقاته، ذلك لتعمق أزمته والتصدعات التي تضرب في الصميم فتكشفه على هشاشته مرة واحدة.
لا شك أن الكيان الإسرائيلي رصد عدد المصلين في المسجد الأقصى يوم الجمعة الماضي ٢٢ نيسان، ومما لا ريب فيه أنه يرصد حالة التلاحم الوطني الفلسطيني في الدفاع عن القدس والأقصى، بل إنه يرصد حالة التعبئة في الشارع العربي والإسلامي بتوقيت شهر رمضان المبارك، وإذا كان سيفقد توازنه مع رؤية مشاهد – قد تكون غير مسبوقة – هي على موعد مع يوم القدس العالمي – الجمعة الأخيرة من شهر رمضان – فإن ما وصله من رسائل كانت واضحة بالبيانات الأوروبية والأميركية ربما ضاعفت من آثار الصدمة التي لن يستيقظ منها إلا على واقع يزيد في إحباطاته وخيباته.
منذ متى كانت تدعو واشنطن إلى التهدئة، وإلى احترام الوضع التاريخي والقانوني في القدس والأقصى؟ ومنذ متى كان الأوروبيون يترددون في الاصطفاف خلف الإجراءات الإسرائيلية التهويدية للأقصى والمدينة المقدسة؟ لا شك أن حكومة بينيت قرأت المواقف الغربية الأميركية، وربما ما زالت تحت وقع الصدمة تعيد قراءة الموقف الروسي الجديد.
التحولات الأميركية الغربية الجارية هي قسرية، وهي تطورات كبرى، رغم معرفة أسبابها، سيكون لها المزيد من الارتدادات إذا لجأت سلطات الاحتلال للتصعيد والإنكار، ولعلها إذا استطاعت الضغط على الغرب وأميركا لإحداث تغيير باتجاه ما تنكره، فإنها لن تتمكن من إنكار الواقع الجديد الذي يفرضه الشعب الفلسطيني بمقاومته التي تكتب معادلات قوة، أهم تجلياتها النجاح بردع العدو وبإفشال مشاريعه ومخططاته، بل النجاح بتعميق أزماته التي ضاعفت نسبة المستوطنين الذين يبحثون عن جوازات سفر أخرى مع انشغالهم بحزم الحقائب.