الملحق الثقافي: دلال ابراهيم:
لا يمكن لأي رواية عالمية نالت شهرة وأرقام توزيع قياسية أن تنافس رواية البؤساء للشاعر والروائي الفرنسي فيكتور هوغو على عرشها ك ( رواية صناعة ) فمن مسرحية إلى فيلم ثم إلى فيلم غنائي وحتى مسلسل من إنتاج مؤسسة البي بي سي حتى بلغ عدد الأفلام التي اقتبستها السينما من البؤساء 61 فيلماً ..
بينما لا يزال إلى يومنا هذا يحتل الملصق الإعلاني الذي يصور الفتاة كوزيت للعرض المسرحي الغنائي الذي افتتح الستار عنه في لندن عام 1985 مكاناً بارزاً على واجهة مسرح وسط المدينة .. وحضرهذا العرض المسرحي الغنائي 120 مليون متفرج في 52 بلداً وحصد أكثر من مائة جائزة.. وثمة نجاح مماثل في عالم التكنولوجيا الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي .
فعندما غنت المغنية البريطانية سوزان بويل أغنية ( أنا حلمت حلماً ) في المسرحية تلك تابعها على موقع يوتيوب أكثر من 114 مليون شخص .. وهذا يعني أننا حين نتحدث عن االبؤساء فإننا نتحدث عن كتاب لا يموت وفيلم لا يموت ومسرحية لا تموت . بمعنى عمل فني ابداعي متكامل شكل ظاهرة لا تموت . وبالتالي دجاجة بياضة للفن السابع. وعلى الرغم من النجاح الكوني الذي حققته البؤساء لا زال يدهشنا ما يتكشف لنا من خيوط أسرارها وألغازها إلى يومنا هذا.
والآن وفي أعقاب مرور 157 عاماً على صدورها تجول بنا مجلة اكسبريس الفرنسية في كواليس بدء تكوين هذا العمل البالغ الأهمية في الأدب الفرنسي . وتعود بنا إلى ما قبل 30 آذار عام 1860 تاريخ صدور الرواية لتميط اللثام عن الأسرار الكبيرة والصغيرة التي سبقت كتابة هذا العمل الضخم . ولادة الرواية من علاقة غير شرعية في الخامس من شهر تموز عام 1845 طرق باب الشقة الواقعة في شارع سان روش, قرب ساحة الفاندوم مفوض شرطة باريس يرافقه زوج مخدوع يستشيط غضباً. وكانت تجمع تلك الشقة الروائي فيكتور هوغو وصديقته المحببة ليوني بيار وهما في حالة تلّبس بجرم الخيانة.
وفي ذلك العصر لم يكن ثمة تهاون في مثل تلك القضايا, حيث تم إلقاء القبض على صديقة الروائي والحكم عليها بالسجن. أما هوغو صاحب قصيدة ارناني, وكان له من العمر حينها 43 عاماً فقد استفاد من الحصانة التي يتمتع بها بوصفه من إقطاعيي فرنسا. وبالتالي نجا من عقوبة السجن ولكن ومن أجل الهروب من وصمة العار وتحاشي نظرات الاستهجان ضده, حبس نفسه وأغلق عليها في شقته الواقعة في ساحة رويال. وشرع في كتابة رواية بهدف قتل الوقت وملء أوقات فراغه, اطلق عليهاعنوان جان تريجان, والتي تحولت فيما بعد إلى البؤساء. ولم يكن في تصور هوغو لدى مباشرته في كتابة الرواية أي مخطط أو أي خطة محددة لها مسبقاً. حتى وإن كان هذا الأمر يصعب تصديقه نظراً للكم الهائل من السمات والملامح التي تميزت بها الرواية العملاقة والتي ضمتها بنسختها الفرنسية الأصلية 1900 صفحة موزعة على 365 فصلاً .
فضلاً عن تعقيدات سير أحداث العمل. حيث تغطي الأحداث فيها الفترة الممتدة ما بين عامي 1794 – 1833 وتتقاطع تلك الأحداث مع معركة واترلو وكذلك ثورات عام 1832 إلى جانب التعاطي مع مئات الشخصيات، بحيث لا نجد مخطط لتلك الرواية سوى أربعة أسطر خطهم هوغو في أحد الزوايا يقول فيهم ( حكاية قديس, حكاية رجل, حكاية امرأة, حكاية دمية ) وهذا كل شيء عن البؤساء. وتوقف فيكتور هوغو عن كتابة مغامرات كوزيت وفانتين وجان فالجان إثر انشغاله واشتراكه في أحداث ثورة عام 1848 والتي استمرت لمدة اثنا عشر عاماً.
وفي أعقاب نفيه خارج فرنسا كتب بطرك غيرنيسيه في العام 1860 بالتحدديد ملاحظة تقول ( تم سحب البؤساء من الصندوق المخصص للمخطوطات ) ونقرأ على المخطوطة المحفوظة الآن في المكتبة الوطنية في منتصف الفصل المعنون باسم ( بوفارد, بافارد) ومؤرخة في شهر شباط عام 1848 ما يلي ( هنا, توقف اقطاعي فرنسا عن الكتابة, واستمر بالنفي ) الطاولة الدوارة وما تلا ذلك كان بمثابة توجيه ضربة على كل العقلانية الهوغولية, حيث تم العثور على اسم البؤساء الذي أطلق على الرواية التي احتلت لها موقعاً كبيراً في الأدب على طاولة دوارة. كان من المعروف عن الروائي هوغو تعلقه بابنته ليوبولدين التي توفيت غرقاً في عام 1843 وأملاً منه في التواصل والتحاور معها في العالم الآخر ضمن جلسات عائلية لجأ إلى عمل يقرنون فيه الأحرف الأبجدية بحسب ضربات رجل الطاولة الدوارة ولينتهي الأمر إلى تشكيل جملة . وعلى هذا الأساس أمرت الطاولة الدوارة فيكتور هوغو في 15 أيلول عام 1853 ( أيها الرجل العظيم, انهي البؤساء ) وتفيض رواية البؤساء بتلميحات تخص حياة الروائي, إلى درجة أن البعض رأى فيها تقريباً سيرة ذاتية مقنعة تحت لبوس قصة مسلسلة واسعة. مثل تلميح مرمز لعشيقته جولييت درويه, وهنا نلتقي بممرات دير بتي بيكوس الذي تختبأ فيه كوزيت وجان فالجان بالآنسة درويه, أم الملائكة, كما وأن تاريخ زواج كوزيت من ماريوس ( الشخصية التي اخذت الكثير من ملامح الروائي هوغو, بدءاً من اللقب الثاني, ماري ) المصادف للسادس عشر من شهر شباط 1833 يتوافق مع أول ليلة أمضاها ( تورور ) مع جولييت. وثمة الماح فيه جرأة أكبر أيضاً إلى ليوني بيار, والتي نراها بشكل غير متعمد في اصل الرواية وبدايتها عندما يخبىء جان فالجان كنزه في مطهرة مونفيرميه بدلاً من بلارو, وهو الاسم المستعار الذي كانت بيار توقع عليه اسمها لمقالات كانت تكتبها لمجلة ( الأحداث ).
وفي تلك الأثناء وبهدف حصول الرواية على أفضل المبيعات, كان لا بد لأحد الناشرين من الابحار في الباخرة إلى فرنسا. وهذا ما أقدم عليه الناشر البير لاكروا, والذي جاء للتفاوض مباشرة مع هوغو في غيرنيسيه, حيث سعى إلى مضاعفة المبلغ المقدم للروائي من قبل منافسيه. وعرض الناشر البلجيكي مبلغ 240 ألف فرنك بلجيكي مقابل الحصول على حقوق الرواية. وهذا المبلغ يعادل أكثر من 600 ألف يورو تًدفع لروايات عصرنا الحالي. ووقع هوغو على العقد.
وابتداءاً من هذا التاريخ لم يعد المنفي الفرنسي الأكثر شهرة يعاني من الضائقة المالية. ومع الحقوق التي ضمنتها له روايته استطاع ترميم وتجميل واجهة هوتفيل وهو منزله في غيرنيسيه, كما واستطاع بالمبلغ بناء حجرة ( النظرة الشاملة ) الشهيرة, وهي عبارة عن حجرة من الزجاج, جعلها هوغو غرفته للكتابة. كما ووفر له هذا المبلغ دفع مهر ابنته اديل ( 50000 فرنك ) واستثمر باقي المبلغ في اسهم. الأمر الذي لم يخل من السخرية إذا ما فكرنا أن تلك الرواية قد بدت وكأنها تهمة كبيرة ضد مستغلي البؤس البشري. ولكي يؤمن الروائي هوغو نقل مخطوطته من البؤساء إلى مطابع بلدان القارة الأوروبية اقتنى من أجل هذه الغاية حقيبة ضد الماء, وهذا ما يشير إليه في أجندته.
إجراء احترازي غير مجد, نظراً لأن نقلها كان آمناً. ظهرت الطبعة الأولى من الرواية بتاريخ 30 آذار عام 1862 في بروكسل عن دار نشر لاكروا وفيربوكهوفن ( واعتبر هواة الكتب أن تلك الطبعة هي الأصلية ) وظهرت طبعة البؤساء في باريس بتاريخ الثالث من نيسان من نفس العام لدى دار بانير، وبالتزامن انتشرت الرواية باللغة الفرنسية في العديد من العواصم منها لشبونة ولندن وموسكو وريو دي جانيرو، وفي أعقاب صدورها بخمسة عشر يوماً تمت قرصنة خمس طبعات منها، وبعد مرور خمسة أشهر على إصدارها , وعلى الرغم من ارتفاع ثمنها, بيع منها 100000 نسخة عبر العالم, وهو رقم كبير قياساً بذلك العصر. وفي اليوم المصادف لنشر الطبعة الثانية من الرواية, بتاريخ 15 آيار عام 1862, ومنذ الساعة السادسة والنصف صباحاً, احتشدت أعداد ضخمة من باعة الكتب ووسطاء البيع والقراء والفضوليين أمام متجر الناشر بانير في شارع السين في مشهد أشبه بهياج شعبي. وخلقت العربات ذات العجلتين التي ازدحم بها الشارع أزمة سير خانقة. بحيث لا نرى شيئاً جديداً في الاستراتيجية التسويقية التي ابتدعها ناشر رواية هاري بوتر أو روايات دان براون خلال اطلاق الطبعات في منتصف الليل. أصداء الرواية والصدمة ولا يمكن الزعم أن الأدباء ممن عاصر الروائي هوغو قد استقبلوا روايته البؤساء بالترحاب.
حيث رأى الكاتب والشاعر فلوبير, من جانبه أن ( هذا الكتاب قد جرى تأليفه من أجل حثالة الكاثوليكية- الاجتماعية ) كما وأعربت الكاتبة جورج صاند عن أسفها لأن أسقف Digne والذي افتتحت الرواية لديه قد رحب بها وقدمها بحماس شديد .
أما الضربة الموجعة التي دام تأثيرها فترة طويلة فقد جاءت من الكاتب باربي دورفيلي الذي أدان الرواية وكل توجهات هوغو واستنكر بعض ما جاء في الرواية وزعم أنها ( مقبلات لا لزوم لها أضيفت إلى العمل وانتهت إلى القضاء على فكرة الفائدة منه ) وهذا الهجوم الشرس استهدف الفصل الخاص بمعركة واترلو والخطبة الطويلة ( لطفل باريس ) والوصف التفصيلي لدير بتي بيكوس . إدانة عملت جرحاً عند هوغو ولو أنه تظاهر بالعكس وقال كلمته الشهيرة رداً عليها ( وهل يضير الرجال العمالقة مهاجمة الأقزام لهم ؟ ) الشاعر بودلير, كتب مقالة في الصحافة, حين صدورها يمتدحها ويصفها بأنها رواية مبنية على هيئة قصيدة. ولكن العجيب الغريب أنه راح يهجوها في رسالة وجهها إلى أمه قال لها « إنها تافهة, وقد مدحتها في الصحافة وأثبت أني قادر على الكذب ».
وأكثر تعليق مضحك عن البؤساء جاء من الناقد الأدبي ميشيليه الذي صرح بكل وضوح ( لقد أصبت هذا العام بفاجعتين وفاة ابني وصدور رواية هوغو). والجدير ذكره أن من مفاعيل هذه الرواية الايجابي على عامة الشعب والمجتمع هو صدور قانون من قبل الحكومة الفرنسية في ذلك العصر ألغت بموجبه العقوبة التي كانت تفرضها على سارق الرغيف. بعدما لمست الظلم الذي لحق بسارق رغيف الخبز جان فالجان الذي أراد منه اسكات جوع ليس إلا !!! تماماً كما فعلت فيما بعد بأعوام طويلة حين ألغت عقوبة السجن المؤبد على السارق الذي تجاوزت تهماته في السرقة 16 تهمة كرمى لعين كاتبها العظيم جان جينيه, والذي وصل عدد تهمه إلى 16 تهمة في سرقة الكتب فقط. ولكنه جان جينيه!! أيعقل أن يًسجن الفكر ضمن أقفاص ؟.
التاريخ:الثلاثاء10-5-2022
رقم العدد :1094