ألقى وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر من على منصة دافوس حجراً في المياه المتلاطمة بين روسيا الاتحادية وحلف شمال الأطلسي على الساحة العالمية بشكل عام والساحة الأوكرانية بشكل خاص فاتحاً الباب لطرح العديد من التساؤلات عن مآلات الأزمة الأوكرانية والخيارات المتاحة للأطراف المتصارعة ودور القوى الأخرى في منع اشتعال حرب عالمية ثانية.
أكثر ما أثار الجدل في تصريحات كيسنجر دعوته أوكرانيا للتخلي عن جزء من أراضيها لروسيا، بغية التوصل إلى اتفاق سلام مع موسكو وأن تكون “دولة محايدة، لا جزءاً متكاملاً من أوروبا لكونه يستجيب للمطالب الروسية ويعد استسلاما لروسيا. لاتزال تصريحات كيسنجر تنتشر وتتفاعل كالنار في الهشيم في الأوساط السياسية الدولية واعتبرها البعض تعكس رؤية صناع القرار في الدولة العميقة بالولايات المتحدة الذين لا يريدون خوض حرب عالمية ثالثة لا منتصر فيها.
من المعلوم أن كيسنجر الذي يعد واحداً من أبرز دعاة السياسة الواقعية في العالم له تأثير ونشاط كبير في مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية التي يسترشد بها صناع القرارات الدولية في الولايات المتحدة وخارجها وهو ما دفع بعض السياسيين إلى دعوة الرئيس الأوكراني وحكومته للتأمل بهذه التصريحات وتقدير أبعادها وعدم التعامل معها بسطحية وبانفعال فيما العملية الروسية تحقق أهدافها على الأرض وفق استراتيجية تأخذ في الحسبان كل التطورات في العالم المتعلقة بالأزمة الأوكرانية وتداعياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وفي الدول الأوروبية على وجه الخصوص التي باتت تحضر شعوبها لمرحلة صعبة بعنوان” الحرية أهم من التجارة الحرة وحماية قيمنا أهم من الربح “حسب ما قاله الأمين العام لحلف الناتو ينسى ستولتنبرغ في دافوس.
لا شك أن كيسنجر لا يقدم على الإدلاء بتصريحات من هذا القبيل دون الإحاطة بكل تفاصيل الأزمة الأوكرانية وتطوراتها على أرض الواقع عسكرياً وسياسياً وبالتالي من المحتمل أن تعبر تصريحاته عن إحدى رؤى الحل الأميركية للأزمة الأوكرانية التي يتم تداولها في أروقة صناع القرار وطرحها من قبلة في دافوس بهدف الوقوف على ردود الفعل عليها ليس من الحكومة الأوكرانية الخاضعة بالكامل لقرار واشنطن بل من روسيا والدول الأوروبية التي ستتحمل عواقب وخيمة على المدى الطويل في حال فشل إحياء المفاوضات ومواصلة استعدائها لموسكو حسب ما أدلى به كيسنجر.
حتى اليوم لا يوجد لدى الأوروبيين أي طرح سياسي أو مبادرة من شأنها التمهيد لحل الأزمة الأوكرانية وهذا يعكس حقيقة هيمنة القرار الأميركي على القرار الأوروبي ولكن ذلك لم يكن كافياً لإخفاء الخلافات داخل الأسرة الأوروبية والتي من الممكن أن تتفاقم مع التداعيات الاقتصادية السلبية على شعوب هذه القارة التي بدأت تعبر عن رفضها لسياسة حكومات دولها العاجزة عن كبح جماح التضخم وارتفاع الأسعار، من المؤكد أن تصريحات كيسنجر لم تكن موجهة إلى أوكرانيا والأطلسي فحسب بل إلى موسكو أيضا المهددة في حال تعنتها بالمفاوضات بـ” حرب جديدة ضدها ” وهذا ما اعتبره العديد من المراقبين إشارة واضحة إلى أن ما طرحه كيسنجر ليس من بنات أفكاره لوحده بل هو صيغة حل أطلسية لا رابح ولا خاسر فيها إلا أوكرانيا. ما صدر عن المسؤولين الأوروبيين بشكل غير مباشر حول زوبعة كيسنجر لا يمكن الأخذ به أو البناء عليه وخاصة ما جاء على لسان رئيس حلف شمال الأطلسي بدعوته الإصرار على هزيمة بوتين وتأكيد رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا فيتسولان على استمرار التصعيد وعدم سماع كلمة “تهدئة” مع روسيا في ظل الخلافات المتنامية بين الدول الأوروبية واختلاف الرؤى بشأن أنجع الحلول لمواجهة روسيا.
في المقلب الآخر من الأطلسي يرى مسؤولون أميركيون أن إيقاف طموحات بوتين أمر لا نقاش فيه وحتمي ليس من أجل أوكرانيا بل للحد أيضاً من طموحات الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي تنافس بلاده الولايات المتحدة على القمة ولكن هذا ليس بالأمر السهل ومرهون بمدى استعداد الأوروبيين على كسر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حيث يربط المستشار الألماني أولاف شولتز بين نقطة التحول هذه أي هزيمة بوتين وبين موازنة السياسات والمخاوف الاقتصادية والتزامات “السياسيين بالواجب فعله” أثناء قيامهم بالتوفيق بين أجزاء مختلفة من تفويضهم من الجمهور وهو ما يوضح القلق الذي ينتشر في الأوساط السياسية الأوروبية عموما جراء تنامي رفض الشعوب الأوروبية لسياسة حكوماتها المرتهنة للسياسة الأميركية والعاجزة عن تعويض الآثار الناجمة عن الأزمة الأوكرانية، قد يكون ما طرحة كيسنجر من اقتراحات لحل الأزمة الأوكرانية في الشهرين القادمين بداية لمفاوضات شاقة بين موسكو والأطلسي وكذلك مفصل لحرب أوسع ولكن هذا محققا أن روسيا لن ترضى دون الاعتراف باستقلال دونباس وسيادتها على شبه جزيرة القرم وحيادية أوكرانيا إن بقيت كما كانت قبل العملية الروسية.