الثورة – سامر البوظة:
ما تعيشه الدول الأوروبية من انقسام سياسي حاد وتأزم على مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية هو نتيجة طبيعية للسياسات الخاطئة التي ينتهجها غالبية ساسة الاتحاد وقادته الذين يثبتون يوماً بعد يوم مدى تبعيتهم المذلة وارتهانهم الأعمى لسيدهم الأميركي من خلال إصرارهم على السير وراءه واقتدائهم بالنهج العدائي الذي يتبعه تجاه العديد من الدول لا سيما التي تناهض سياساته أو تقف عرضة أمام هيمنته ومشاريعه الاستعمارية.
واليوم تؤكد أوروبا مجدداً أنها محكومة بعلاقة التبعية تلك، وأنها مرتهنة أكثر من أي وقت مضى للسياسات الأميركية وذلك من خلال المواقف العدائية والعقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي بين الحين والآخر ضد العديد من الدول والتي كان آخرها العقوبات التي جددها ضد سورية مطلع الشهر الجاري, وحزمة العقوبات السادسة ضد روسيا وبيلاروسيا بسبب العملية العسكرية في أوكرانيا, والتي وضعت حيز التنفيذ الأسبوع الماضي, وذلك بعد عدة أسابيع من النزاعات بين قادة الاتحاد, متجاهلين مصالح دولهم وشعوبهم على الرغم من كل التحذيرات والنداءات المطالبة بالتراجع عنها خوفاً من العواقب الكارثية والخطيرة التي ستخلفها تلك العقوبات والتي ستنعكس بشكل مباشر وبالدرجة الأولى على أوروبا وعلى الشعب الأوروبي الذي بدأ يحصد فعلياً نتائج تلك السياسات الخاطئة, وهو ما تؤكده البيانات والتقارير الصادرة من أكثر دولة أوروبية والتي تعاني اليوم أوضاعاً اقتصادية ومعيشية صعبة وأزمات خانقة في ظل تضخم شديد وارتفاع أسعار الوقود إلى أعلى مستوياتها وزيادة أسعار المواد الغذائية, والأمور تتجه نحو المزيد من التأزم.
الإجراءات الأوروبية الأخيرة أدت إلى انقسامات وخلافات حادة بين دول الاتحاد ولاقت العديد من الأصوات المعارضة في البرلمان الأوروبي, لا سيما هنغاريا التي أدركت الخطر وأعاقت الموافقة على العقوبات الجديدة، بمعارضتها حظر النفط الروسي, الأمر الذي دفع البرلمان الأوروبي إلى الدعوة إلى التخلي عن اتخاذ القرار بالإجماع في السياسة الخارجية وقضايا الأمن، والاكتفاء بأغلبية الأصوات، من أجل تسريع الاتفاق على مسائل مثل فرض العقوبات على دول ثالثة, بحجة أن هذا الإجراء “من شأنه أن يزيد من فعالية السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي”.
البرلمان الأوروبي من خلال هذه الدعوة يحاول بشكل واضح إيجاد مخرج للتحرر من القيود والقواعد الملزمة, للتفرد بالقرارات التي تتناسب مع توجهات بعض الأوروبيين وأهدافهم ولا تتعارض مع مصالح واشنطن, وبلا شك فإن هذا الإجراء هو مسرحية هزلية مكشوفة, ومحاولة فاشلة لإقناع العالم بأن أوروبا حرة وسيدة قرارها بعيداً عن واشنطن وبمعزل عن مواقفها, لأن الحقيقة عكس ذلك، وأوروبا بممارساتها وأفعالها تثبت أنها مرتهنة أكثر من أي وقت مضى للولايات المتحدة ولصناع القرار فيها وأنها عاجزة عن التخلي عن تبعيتها وانصياعها الأعمى لهم, فهي لا تستطيع السير بمفردها دون إيعاز من البيت الأبيض, والدعوة التي تمت كانت بإيعاز مباشر وضغط مفضوح من واشنطن وأتباعها من القادة الأوروبيين, وهي بلا شك مقدمة لتمرير عقوبات جديدة ضد روسيا دون الحاجة إلى إجماع في البرلمان الأوروبي, لزيادة الضغط عليه وأخذ الأمور نحو مزيد من التصعيد, لأن التصويت على قضايا العقوبات يتطلب قراراً بالإجماع من جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي, وهذا غير متوفر, فالهدف إذاً واضح وهو تمرير أي قرار أو مشروع يخدم المصالح والسطوة الاستعمارية الأميركية فقط, والأوروبيون يعرفون هذا الأمر تماماً, إلا أنهم لا يستطيعون الخروج من تحت العباءة الأميركية, ويصرون على صم آذانهم وتغييب العقل والبصيرة بإجراءاتهم العبثية غير المحسوبة تلك, متجاهلين مصالح بلادهم وشعوبهم فقط لإرضاء مشيئة الإدارة الأميركية.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه, ما مصلحة أوروبا من وراء كل ذلك؟ وماذا جنى القادة الأوروبيون من وراء تبعيتهم وهرولتهم المستمرة وراء الأميركي وماذا سيجنون؟ وإلى أي منزلق خطير يسيرون ببلادهم وشعوبهم؟ ألم يتعلموا بعد من دروس الماضي والتاريخ أن الأميركي لا صاحب له ولا تهمه سوى تحقيق مصالحه ولو كان على حساب فناء العالم بأكمله.
على القادة الأوروبيين مراجعة حساباتهم جيداً قبل فوات الأوان وأن ينصتوا للأصوات العاقلة في العالم التي تطالبهم بالتوقف عن تلك الممارسات والتراجع عن إجراءاتهم العبثية وغير القانونية التي تشكل خطراً جسيماً على اقتصادات بلادهم وعلى حياة شعوبهم, وإذا ما استمروا بالسير وراء الأميركي فإنهم لن يحصدوا سوى الخيبة والخسران, ولن يوصلهم ذلك إلا للهلاك والخراب.