الملحق الثقافي- دلال إبراهيم :
راهن كثيرون على أن هذا الكاتب لن يكون واحداً من الذين تعيش ذكراهم طويلاً. قالوا إن أدبه ليس له وزن أدب فوكنر، وإن أسلوبه يقل أهمية عن أسلوب شتاينبك، وإن حياته الشخصية أقل جدارة من حياة سكوت فيتزجيرالد، وقالوا، أيضاً، إن أهم ما في سيرة همنغواي انتحاره… لذلك حين سينسى الناس حكاية الانتحار سينسون صاحبها. ثم، أليست رواياته الكبيرة عبارة عن ميلودرامات شعبية لا تستحق أكثر من أن تتحول إلى أفلام سينمائية، ومسلسلات متلفزة تدر الدموع؟ اليوم، بعد أكثر من ستين عاماً على رحيل همنغواي… وبخاصة بعد أن مرت سنوات خيل فيها للبعض أن النسيان قد طوى، حقاً، ذكر صاحب «العجوز والبحر»، و»لمن تقرع الأجراس؟»، ها هو همنغواي يقفز حيوياً أكثر من أي وقت مضى، ولكن من حيث لم يكن أحد يتوقع، من خلال الكتب العديدة التي تتناول فك سر حياته وإعادة طباعة كتبه. وخلال الأحداث الإرهابية التي شهدتها باريس تحول كتابه (باريس عيد متنقل) إلى ما يشبه الإيقونة وقد تم إعادة طباعة الملايين من النسخ منه.
إنها حكاية رجل تجاوز أسطورته وأصبح أكبر بكثير منها. ولاسيما أن أرنست همنغواي صاحب الحكاية كثيراً ما اتهموه بأنه خط بيده أسطورته من خلال إعادة صياغة حياته كما يطيب له. والكاتب همنغواي لم تخدعه الأمور، فقد كان مسروراً بمضاعفة غرائبه، مثل: غرامه بمصارعة الثيران، الملاكمة، النساء الجميلات، هواية الصيد مراسل في الحرب الإسبانية وجندي جريح على الجبهة الإيطالية .. وكاتب أيضاً وكاتب بشكل خاص.
وطوال سنوات رحيله التي ناهزت الستين عاماً، لم يتوقّف الناشرون حول العالم عن إعادة طباعة أعماله، كما لم يتوقّف القرّاء عن قراءته أيضًا، ولم تتوقّف الكتب ذات الطابع أو البُعد الاستقصائي عن الصدور كاشفةً لغزًا هنا وسرًّا هناك. وخاصة في الأسباب التي دفعته إلى الانتحار. أسماء عديدة خاضت غمار البحث والتنقيب في حياة الروائيّ الأميركيّ، مثل مايكل رينولدز الذي قدّم خمسة مجلّدات تتناول حياة همنغواي منذ أن كان شابًّا وصولًا إلى سنواته الأخيرة.إضافة إلى كاروس بيكر الذي كتب سيرة ذاتية جاءت تّحت عنوان «همنغواي: قصّة حياة»، ثمّ عاد وجمع رسائله التي صدرت سنة 1981 في جزئين، عدا بول هندريكسون، وملتون كوهين الذي ألّف «مختبر همنغواي»، وتوني كاسترو الذي قدّم «البحث عن همنغواي» وجون مكغراث، وكذلك ثلاثة كتب جديدة صدرت سنة 2018 وحدها أبرزها كتاب أندريا دي روبيلانت المعنون بـ «الخريف في فينيسيا: همنغواي وآخر علاقاته الغرامية»، الذي يتحدّث عن علاقة الحبّ التي جمعته أثناء إقامته في مدينة البندقية، مع أدريانا أيفانيتشيش. إنّ الكتب التي كُتبت حول حياة همنغواي وسعت إلى أن تكون سيرته الذاتية كانت تُحاول الإجابة عن سؤال: من إرنست همنغواي؟ لماذا أقدم على الانتحار؟
بيد أن النتيجة تكمن هنا: ما زال همنغواي رغم مرور سنوات طويلة على وفاته شخصية رمزية، بصرف النظر عما كتبه، وهذا يعتبر بالتحديد أسوأ ما يمكن أن يحصل إلى من أطلق ما يمكن أن نسميه تحذيراً لكاتب سيرته:»أريد أن أكون معروفاً ككاتب وليس كرجل شارك بالكثير من الحروب ولا كملاكم وليس كذلك كمقامر أو كسكير.» ويقول الكاتب جيروم شارين في كتاب السيرة الذاتية التي كرسها لحياة هذا الكاتب العظيم» حظي همنغواي بكم من الدراسات فاقت مثيلاتها من الدراسات المكرسة للأدباء الأميركيين، ولكن قلة قليلة فهمته.»
والآن، هل يمكننا بعد مرور هذه الأعوام على انطلاق تلك الطلقة النارية التي أردت همنغواي قتيلاً في ايداهو حل لغز همنغواي ؟ ليس من السهولة خرق هذا السر، وحين تم طرح هذا السؤال منذ بضع الوقت على الكاتب جيم هاريسون، الذي غالباً ما يقارنوه بمؤلف الشيخ والبحر (لأسباب خاطئة) أجاب «في حال كنت تلعب دوراً، كيف سيمكنك الخروج من هذا الدور ؟». دون شك تلك هي أحد الألغاز التي ضايقت كاتبنا في فجر الثاني من شهر تموز عام 1961، عندما قرر مرة واحدة الانتهاء من كل شيء. في ذلك الصباح صوب الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1954 بندقيته على نفسه وضغط على الزناد.» هل يمكننا أن نستسلم لليأس بحجة أننا لم نعد نفهم هذه الحياة؟» يسأل الكاتب جيم هاريسون. ومن جانبنا نحن، نتساءل إن كان همنغواي قد تبنى المبدأ الذي قاله يوماً اندريه مالرو «شرف الإنسان يقوم على أساس خفض نصيبه من الهزل»؟
لا ينبغي أن تطغى حياة الكاتب على أعماله. وحياة الكاتب همنغواي تعتبر من أكثر الحيوات ثراءً وتأثيراً في القرن العشرين. ماذا عسانا أن نعثر فيها ؟ إن الأدب ليس مجرد تسلية وترفيه. وأن الأحلام وحدها عاجزة. بينما يعمل الأدب على مواكبة تلك الأحلام ومنحها قوتها وتماسكها. ووفق ما يرى همنغواي، يسهم الأدب في تغيير الحياة، وهي فكرة يقاسمه بها صديقه – العدو سكوت فيتزجيرالد، والذي صاغ بدوره في جملة واحدة جزلة استعارها من أرنست همنغواي، وقد غبطه عليها» ينبغي علينا أن ندرك أن الأمور غير محكومة بالأمل، ومع ذلك محكوم عليها أن تقود إلى التغيير». أي كاتب يجرؤ على قول مثل هذا، أن يصرح أنه يكتب لكي يغير العالم حتى ولو كان يعلم أن ذلك لن يجدي نفعاً ؟ أي ألا تنسحب تحت ذريعة أن الكتاب لن يغير وجه العالم: بل أن تكون، على خلاف ذلك رافضاً لما قد يبدو ضئيلاً هزيلاً: ذلك هو فعل الأدب بامتياز. لم يكن غضب همنغواي من حماقة البرجوازية تعني شيئاً آخراً.
إن الأدب يضيف المزيد من متعة الحياة، يساعد على ترتيب الصندوق وإلقاء الحبال والإبحار في الفكر والغرق في القلب. وخاصة أنه في الغالب يقدم نقيضاً عن النموذج الحقيقي لأنه يقولب نظرتنا لرؤية هذا الواقع. من يقرأ يعلم أنه يستطيع أن يتحدى القدر ويصنع حياته. من يقرأ يعلم أنه يستطيع أن يتحرك ولا يستكين. من يقرأ يعلم أنه نفسه الشخصية ومؤلف الرواية . من يقرأ يعلم أن ليس ثمة فرق بين الأدب والحياة، لأن الأدب هو نفسه الحياة. وكل شيء لدى همنغواي يقود إلى مفهوم للوجود يتجسد في فكر المقاومة: علينا أن نرفض قبول عالم يكون أقل مما ينبغي أن يكون. والكاتب همنغواي يفسر بشكل رائع هذا من خلال مصير شخصيات رواياته، وقد جسده في آخر كتاب له: «باريس هي حفلة» ماينبغي فعله هو أن تكتب جملة واحدة.»
سواء أكنا أحببناه أم لم نحبه، لقد كان همنغواي أحد المعالم البارزة في أدب العصر المنصرم. نعم ثمة كتّاب كانوا من المعارضين لهمنغواي، ريتشارد فورد على سبيل المثال، أو جون ايرفينغ، وآخر رواياته (الليلة الماضية في نهر ملتوي) حققت نجاحاً لافتاً. وفي مقابلة أجرته معه مجلة اكسبريس قال حول همنغواي «الناس معنية بهذا، لأنها لا تستطيع أن تقول أشياء حول أمور شخصية وعن هراءات …، ولكن أي غباء هذا! .. يستخدم همنغواي القليل من الكلمات في جملة واحدة. في حال كان ذلك يلائمه، ولكن لماذا؟ أنت إن رغبت أن تركض هل تعلق رجلك إلى أردافك وتقفز حجلاً ؟ أنا لا أفعل ذلك، طالما أني أحب أن تكون أرجلي ثابتة ومتينة!… الجميع يتكلم عن الاختزال لدى همنغواي. إنها لغة سكرتارية … هل الأقل هو الأكثر ؟ أم الأقل هو الأقل!
أجاب همنغواي مرة عندما طلبوا منه تعريف الأديب (الكلاسيكي) «هو كاتب كل العالم يتكلموا عنه ولا احد قرأ له». وعن همنغواي كل العالم تتكلم عنه. ولا نعلم إن كان بعد رحيله بما ينوف الستين عاماً شرعت الناس بقراءته ؟
العدد 1101 -28-6-2022