الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
انه الكسندر سيرغيفيتش بوشكين الذي تحتفي الأوساط الثقافية الروسية بذكرى ولادته الشهر الماضي حزيران و بهذه المناسبة تقام مهرجانات احتفالية عديدة في موسكو تشارك فيها الجهات الثقافية و الحكومية وكان الرئيس الروسي السابق ميدفيديف قد وقع على مرسوم اعلان ميلاد الشاعر يوماً وطنياً للغة الروسية.
بوشكين الذي تناول الأنواع الأدبية كافة من الرواية والشعر الغنائي الملحمي كان مؤرخاً وناقداً أيضاً، لم يكن فقط أكبر أدباء روسيا انما كان أيضاً رمز العبقرية الوطنية الروسية.
ينتمي بوشكين المولود في موسكو عام 1799 الى أسرة عريقة من النبلاء الروس، أتقن اللغة الفرنسية في طفولته قبل أن يبلغ سن العاشرة، و كان يلقي الشعر و الأناشيد الوطنية ذات الايقاع الموسيقي و يتناول القصص الروائية الشعبية و ما إن بلغ الثمانية عشر حتى أصبح أحد أقطاب الحياة الفنية في العاصمة موسكو و مجتمع المثقفين حيث كتب عن تلك الشرائح في «المصباح الأخضر» وفي روايته الشهيرة «يفغيني أونيغين».
كان شديد الذكاء يتمتع بالدعابة و النقد اللاذع ففي سن العشرين ذاع صيته في أنحاء البلاد حين كتب قصيدته الوطنية «روسلان و ليودميلا» ذات الطابع الغنائي و المضمون السياسي التي هاجم فيها الاقطاع عام 1820 و نفي بعدها الى القوقازوقد استلهم عدد لا يستهان به من الرسامين والمخرجين أعمالهم من هذه التحفة الأدبية، بمن فيهم الموسيقار الروسي ميخائيل غلينكا، الذي ألف أوبرا بالاسم نفسه، وهي لا تزال تتصدر قائمة العروض في مسرحي البولشوي ومارينسكي وغيرهما. وتبدأ القصة باختطاف ابنة الأمير الروسي لودميلا من حفل زفافها على يد الساحر الشرير ذي اللحية الطويلة «تشيرنومور». أما العريس رسلان فيشد رحاله للبحث عن عروسه الحسناء، ويمر بمغامرات ومحن كثيرة قبل أن يلقى لودميلا. اللافت أن هذه القصة دمجت بين عناصر الفلكلور الروسي القديم من ناحية، وعناصر الحكايات الشرقية من كتاب «ألف ليلة وليلة» من ناحية أخرى، لتصبح إحدى الحكايات المفضلة لدى القراء منذ القرن الـ19. وفي زمننا تبقى نتاجات هذا الشاعر الملقب بـ «شمس الشعر الروسي» أحد كنوز الأدب الروسي، ولا تزال تلهم الفنانين المعاصرين العاملين في كل المجالات، بدءاً من العروض المسرحية والسينما وانتهاء بالرسم والتصميم.
وقد فتح المنفى امام بوشكين آفاقاً جديدة ففي القوقاز وجد مصدر إلهام له حيث اكتشف الطبيعة الوحشية و القمم الثلجية و شواطئ القرم وخلال تلك الفترة تعمق في قراءة «بايرون» و تأثر به كثيرا فصدر له يومئذ مجموعات من القصائد مثل: «سجين القوقاز» و «بحيرة باختشي ساراي» و «الاخوة اللصوص» و هي أعمال شعرية غنائية.
في عام 1820 كتب قصيدته الهجائية «غابريليادي» التي يشبه فيها أسلوب فولتير حيث تحمس يومئذ للسياسة و تبنى قضية استقلال اليونان.
في صيف 1823 ذهب الى أوديسا حيث المجتمع أكثر ثقافة و هناك درس غوتيه و شكسبير و كتب «الغجر» و في تلك المرحلة عشق زوجة تاجر كبير من أوديسا تدعى ايميلي ثم الكونتيسة فورونتسوفا التي حاول زوجها التخلص منه بنفي الشاعر الغاوي الى مقاطعة باسكوف.
كانت قراءاته خلال تلك المرحلة و مراسلاته مصدر وحي لشعره كما طلب من أحد أصدقائه أن يرسل له كتبا من بطرسبرغ و في تلك الفترة صادق كاهن القرية الذي دفعه لزيارة الأديرة و بدأ يختلط بالشعب بلباس الفلاحين و يصغي لهم.
أول أعماله الدرامية له كان «بوريس غودونوف» وفيه يبدو تأثره بشكسبير، وبعد محاولته الهرب بعد خمس سنوات من المنفى عاد الى موسكو و استقبله الامبراطور ليقيم بوشكين صداقة متبادلة مع الحاكم الجديد و هذا ما دفعه الى القول قبل موته بأيام: انه مرتبط قلبا و قالبا بالامبراطور الذي قدم له المساعدات و خلصه من مشكلات كثيرة خاصة الرقابة.
استقبل المجتمع الموسكوفي بوشكين بحرارة و كان ظهوره في المسرح لافتا، بعدها عاد مجددا الى الجنوب ليكتب روايته التاريخية «بطرس الأكبر» و ليقيم في الأرياف بعض الوقت ثم ذهب الى بطرسبورغ و كتب خلال أيام قصيدته الشهيرة «بولتافا «و هي تمجيد للقيصر (بطرس الأكبر) و خلال ذلك سعى للزواج و انخرط في الجيش في القوقاز لمحاربة الأتراك العثمانيين و كتب أشعاراً جميلة على غرار «رحلة الى أرزيروم» و خلال ذلك كان يحظى برعاية الامبراطور الذي قدم المساعدة المادية للشاعر الوطني فكتب بوشكين قصيدة ملحمية تقارب 400 بيت من الشعر و أربع مسرحيات تراجيدية و قصص «بلكين».
تزوج عام 1831 من ابنة صديقه غونت شاروف بمباركة الامبراطور و أقام في بطرسبرغ و حصل على موافقة لكتابة تاريخ بطرس الأكبر حيث سمح له بالاطلاع على أرشيف الامبراطور و تناول لأول مرة القصة الشعبية: «قصة القيصر سالتان» و هي من أبرز روائعه، كتب أيضا قصة «الصياد و السمكة الصغيرة»، «الأميرة و الأقزام السبعة»، «ابنة الكابتن»، «الفارس البرونزي».
ترك بوشكين أثرا كبيرا على معاصريه خاصة الشعراء حيث ارتبط عصره باسمه و كان مدرسة سار على خطاها الكتاب الروس.
كان اسباني الهوى في «ضيف من حجر» وانكليزياً في «مأدبة في زمن الطاعون» و أوروبياً في باقي أعماله و فرنسياً على غرار ميريميه، ففي «ضيف من حجر» مزيج من فاوست و دونجوان، ولأن شعره بقي غير معروف خارج روسيا فلم يقدر أعماله إلا الأدباء الذين ترجموا أعماله الى اللغات الأوروبية ويبقى بوشكين رغم قصر عمره الأدبي (توفي عام 1837) كما قال: سيظل قومي يذكرونني لأني هززت بقيثارة المشاعر الخيرة، و ناديت بالرحمة على المقهورين.
العدد 1103- 19-7-2022