الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
لا يمكننا اعتباره فناٌ حديث العهد، وقد رأيناه بأشكال متعددة على جدران الكهوف أو جدران المعابد كمنقوشات كتابية أو صور لحيوانات ووجوه بشرية خلفتها لنا عصور ما قبل التاريخ. وما زالت الحضارات الإغريقية والفرعونية شاهدة على تاريخ هذا الفن الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الفنون المعاصرة.
وصفوه بالفن المتمرد المتحرر من كل قيود أو قواعد. إنه (فن الشارع) المرتكز بشكل رئيسي على التحليق خارج السرب والابتعاد عن أماكن الفن التقليدي، وتنفيذ الأعمال الفنية دون وجود حسيب أو رقيب يفرض دوماً قواعد صارمة محفوظة ومعلبة. ومن سماته الأساسية التحامه بشكل مباشر مع الجمهور دون وجود حدود، وقد كان هدف فن الشارع دائماً وأبداً هو جذب الانتباه لقضية مجتمعية مهمة، أو نشر القيم الجمالية.
حينما ألقت قوات الشرطة في مدينة برشلونة القبض على كريستيان غيميه، أحد مشاهير رسامي فن الشارع أو الغرافيتي في أحد الشوارع متلبساً بتهمة رسم صورة عبر البخاخ على صندوق كهرباء، ولم تكن المرة الأولى التي يتم إلقاء القبض عليه. ولدى مثوله أمام القاضي في المحكمة طالب القاضي الإفراج عنه بحجة أنه لا يمكن إدانته لأنه رسم على مبنى بالأساس قذر. وعلق غيميه على الموضوع خلال وجوده في إحدى صالات العرض الباريسية «ما رسمته له قيمته أكثر مما خربت» وتعكس مغامرة C215 وهو لقبه المعروف به الوضع الجديد الذي تحتله الحركة الفنية الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين، والذي كان يعتبره الأكاديميون بمثابة «البطة القبيحة» ويقول نيكولا لو غيرو- لاسير، جامع أعمال فنية ومدير لدى مؤسسة بيير كاردان « على خلاف الفن المعاصر النخبوي والمَجمع عليه يعتبر فن الشارع مقبولاً وشعبياً، هؤلاء الفنانون على تماس مباشر مع ما هو واقعي ومرتفع صوته. « هذا وبعد أن أضفت صالات العرض المصداقية عليه، ومنحته شبكة الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي تلك المصداقية وشرعته دور المزادات، وتسامحت معه بلديات المدن، انسلخ فن الشارع عن جلده، وصار الشارون يلبون الدعوات. البعض لا يريد الحديث عن فن الشارع، لأنهم يرون فيه تعبيراً مختزلاً ويفضلون بدلاً منه تسميته (الفن الحضري المعاصر) ولاسيما وقد بات الآن (لفن الشارع) موقعه في صالات العرض والمتاحف والمزادات وعلى واجهة الأماكن السياحية. وتحت هذه التسمية أصبح لدينا مجموعة متنوعة من الأشكال، منها الكتابات الملونة على الجدران أو الرسومات الجدارية بأسماء متنوعة ولكنها مستعارة. وعن أسباب تخفي فناني الغرافيتي خلف تلك الأسماء يقول شيبارد فيري، الذي اشتهر عام 2008 بملصقه عن باراك اوباما على موقعه:»عندما أنفذ رسوماتي الجدارية ليلاً في لوس انجلوس لا يهتم بي أحد سوى الشرطة. ولكن في يومنا هذا عندما أقوم بعملي على الجدار يجتمع حولي المعجبون ويطلبون مني التوقيع. وبما أن غايتي إنهاء عملي، فإنني آسف على الوقت الذي كنت فيه مضطراً إلى التهرب من الشرطة».
والسؤال المطروح الآن: هل أضفى فن الشارع الطابع المؤسساتي على نفسه إلى درجة أن غطى على طبيعته التمردية؟ لا يخلو فن الشارع من التناقضات. حيث يسبح فنانوه في تيارين مختلفين، من جهة يعتبر عالمهم الفني الذي يمارسونه في الشارع ينفذونه في جو من السرية لأن لا قانون يظلله. ومن جهة أخرى هناك الشهرة والمال والمتاحف. وهذان الجانبان هما في الواقع وجهان لعملة واحدة. هل كانت أعمال زيف، وهو أحد فناني الغرافيت التي تَعرض في صالات العرض ستتمتع بنفس القيمة فيما لو لم تحيط بها المخاطر حين تنفيذها؟ يتساءل المتابعون. فيما يقول المؤرخ في الفن بول اردان في هذا الصدد:» عندما نحصل على أي عمل لهؤلاء الفنانين، نحن لا نشتري الصورة فحسب وإنما نشتري جزءاً من الأسطورة. هذه الحركة الفنية العظيمة تكمن أهميتها في أدائها أكثر منها في الرسم.» وضمن هذا السياق، يقر برونو جوليار، معاون عمدة باريس المسؤول عن القطاع الثقافي قائلاً:»فن الشارع هو ميزان حرارة حيوية المدينة وهو محور النمو الكبير في الأعوام المقبلة».
ويتساءل البعض لماذا هذا الاستعداء من جانب هؤلاء الفنانين للمؤسسات الفنية طالما اعترفت تلك الأخيرة بفنهم؟ لا شك أن تلك فرصة جيدة، ولا سيما أنها لن تحجب الجانب المتمرد للعمل في الشارع. ولكن ومما لا شك فيه أن هذا الفن سار مركبه في العالمية. حتى يمكننا اعتباره الحركة الفنية الأولى التي تؤثر على كوكب الأرض بأكمله ويشارك فيها العالم بأجمعه.
هذا وقد بلغت حجم مبيعات رسومات فن الشارع نظمته أحد المعارض ما مجموعه 2,1 مليون يورو، منهم عمل واحد للفنان C215 نفذه على صندوق رسائل في مركز بريد والذي تضاعف سعره ووصل إلى رقم قياسي بالنسبة للفنان. أما المشترون فهم هواة جمع الأعمال الفنية قدموا من عالم الفن المعاصر ومن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و 40 عاماً ويعملون في مجال المال والاتصالات. إنها الفترة المثيرة للغاية.» وصار يلقى هذا الفن الذي كان يعتبر لوقت قصير فن العصابات ضد المؤسسات الترحيب الآن ولكن ضمن شروط معينة. ويتم تنظيم عروض له في مراكز مرموقة، بحيث تتيح الفرصة لفناني الغرافيت عرض تطبيقاتهم الفنية هذا النوع من الفن حكماً لا يلبي المقترحات التقليدية وإنما إنشاءات يتردد صداها مع هذا النهج « يؤكد على ذلك الفريد باكيمانت مدير مركز بومبيدو. وضمن هذا السياق تؤكد ماجدة دانيسس التي لا تتردد في عرض أعمال تنتمي لفن الشارع تعود لبعض الفنانين المشهورين في صالتها» نحن في طريقنا للاعتراف بهذا النوع الفني، علينا الانفتاح على تلك الحركة» فن الشارع ينمو ولندع له الوقت الكافي ليواصل نموه قبل أن يختار ما الذي ينبغي عليه فعله لاقتحام المتاحف».
عندما غطى متحف الفن المعاصر في لوس أنجلوس إحدى اللوحات الأثرية بطبقة بيضاء، اختار الفنان الإيطالي بلو أن يرسم مكانها صفوف من التوابيت مرفوع عليها الدولارات بدلً من الأعلام. وهذا هو السؤال الذي يؤرق الفنانين: هل يضحون بحريتهم الإبداعية عندما يضع موقع ما تحت تصرفهم إمكانيات لا يألفوها؟ وهل فن الشارع قابل للانصهار ضمن المؤسسات؟ وفق كتاب (الاكتشاف) عن الفن الحضري لمؤلفته ستيفاني ليمون «عندما يتبع فن الشارع للسلطات العامة يبدي ضعفاً أكثر منه قوة» والسؤال المطروح: كيف يصبح فناً سائداً مع حفاظه على التناقض الذي يشكل لب هويته؟ إن هذه الحركة على مفترق طرق الآن، إن جاز التعبير.
العدد 1103- 19-7-2022