البعد عن الأشياء، والأحداث لم يعد حكراً على استخدامات شبكة المعلومات من خلال التعامل الوظيفي، والمجتمعي، والحياتي أيضاً، وخاصة بعدما أتقنا لعبة تنفيذ الأعمال، وتأمين اللقاءات عن طريق ما أتاحته التقنية خلال العامين المنصرمين من التواصل عن بعد.. أقول إنه لم يعد حكراً على كل ما سبق من تعاملات، بل إنه تعداه لينعكس بشكل أو بآخر على العلاقات الاجتماعية، والأخرى الأسرية، ووصل إلى المشاعر الإنسانية، والحواس البشرية.. وسيغدو كل هذا أكثر بعداً في مراحل قادمة، أو سنوات قليلة مقبلة عندما ستفرد ما يسمونها (ميتافيرس)، أو (ماوراء الكون)، جناحيها فوق الكرة الأرضية.
عالم افتراضي غير حقيقي جديد يسعى لأن تتورط فيه الحواس الخمس جميعاً وهو ينقل نفسه إليها، وكما لو أنه الواقع ذاته.. فلمس الأشياء فيه بمساعدة قفازات بمجسات يكاد يكون حقيقياً، وكذلك الأمر مع حركة الأجساد عند ارتداء بدلة مخصصة لنقل الإحساس بالحركة ضمن الصورة التي توفرها نظارات البعد الثالث بحيث يجد المرء نفسه داخل مكان آخر بينما هو لا يزال في مكانه.
مفارقات عجيبة غريبة من الشيء ونقيضه تتيحها هذه التقنية الحديثة التي تعد بالانتشار القريب لتدخل إلى أروقة الوزارات، والقصور، وإلى مجالات الأعمال، والهندسة، والتجارة، والصناعة، ومختبرات البحث العلمي، والطب في المشافي، والعيادات، أو باختصار إلى كل مكان.. والسيولة النقدية تسيل فيها بعملات مشفرة لاتزال هاربة من الرقابة الرسمية، ومن محاسبتها.
والاستثمارات في فضاء (الميتافيرس) تعد بمشاريع برّاقة في مجالات الأراضي، والعقارات، كواحدة من بين استثمارات أخرى كبرى تتدفق فيها الأرباح كما نهر يفيض ماؤه فوق حدود مجراه.
هذا فيما يخص مجال المال والأعمال، لكن مَنْ علق فيه هو الإنسان ذاته الذي اخترع، وصمم، وابتكر، فإذا به يقتنع برغبات يحققها، وبمشاعر يتبادلها مع الآخرين عن بعد في فضاء غير واقعي مفتوح للجميع.. ويقتنع أيضاً بأنه يستطيع أن يكتب قصة أخرى لحياته غير حياته الواقعية التي يعيشها، إذ بإمكانه التغيير في شكله الخارجي، وملامح وجهه، ومواصفاته، وواقعه، وموقعه الذي يتحرك فيه، ليجد نفسه في المحصلة يسير في نفق طويل لكنه مضاء بكل ألوان الرغبة، وبما يتمناه، ويشتهيه.
بعد سنوات عشر سيكون الإنسان قد قطع أشواطاً في تقدمه التقني، وقطع بالتالي مسافاتٍ في نفق البهجة الذي بدأ يخطو فيه منذ الآن خطواته الأولى باستخدام تقنية (ميتافيرس) لا ليقفز إلى ماوراء الكون بل ليصل في نهاية نفقه إلى حيث يجد أشباه الأناس، وليسوا هم حقيقة.. وذلك بعد أن يكون العالم قد تغيّر بالكامل.
فلنستعد إذاً لنرى العالم يضيق، ولا يتسع مع هذا الواقع الجديد الذي سيصبح مزيفاً بالكامل لأن كل أحدٍ في واقعه المعزز قد استطاع أن يضيف إلى ما هو عليه ما يتمناه لنفسه.. ومع ذلك بقي وحيداً في غرفته منعزلاً مع أجهزته.. عالم أشبه ما سيكون بأحلام اليقظة.. ونحن فيه العبيد لفضاء وهمي يحمل كل مواصفات الآخر الحقيقي حتى باللمس، والحركة، والإحساس بالأشياء من حولنا.
ولكن.. إذا كان الشعور المادي محققاَ فما هو حال المشاعر؟ أين ستغيب، وهل ستظل موجودة ونحن نبثها عبر ألياف ضوئية لا من خلال لقاءات حية؟ والعواطف هذه التي نبني عليها علاقاتنا الإنسانية كيف سيكون التعبير عنها ونحن نكتفي بالعيش على طبقة الإحساس السطحي دون المشاعر العميقة؟ هل سيكتفي الأجداد بعناق افتراضي مع الأحفاد، وهل ستسامح الأم نفسها إذا اكتفت بلمسة حنان افتراضية؟ وهل.. وهل..؟
واقع جديد يسعفه الذكاء الصناعي ويعززه سنجد أنفسنا منغمسين فيه في غضون سنوات قليلة مقبلة سواء شئنا أم أبينا، لأن التحول باتجاهه قادم وبقوة.. وهو على أي حال له جانب مضيء لاشك في مسار التطور، وفي خدمة البشر ماداموا يعمرون الأرض.. لكنه في الوقت ذاته سيغلف المشاعر الإنسانية العميقة بغلافٍ جليدي قاسٍ لن نستطيع كسره، أو إذابته ما لم نتنبه إلى ذلك قبل فوات الأوان، وحتى يظل الإنسان هو الإنسان، وليس شبيهه.
* * *