الملحق الثقافي – دلال ابراهيم:
يكاد لا يخلو أي حوار مع الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس أو كتاب من كتبه من الإشارة إلى ألف ليلة وليلة. ونجده مبثوثاً في كامل أعماله، سواء تعلق الأمر بقصصه أم شعره أم مقالاته أم محاضراته.مثله مثل غوته وفولتير وغابرييل غارسيا ماركيز مثلت ألف ليلة وليلة بالنسبة له اكتشافاً جوهرياً ومنهلاً لا ينضب.
وقد كُتب الكثير عن علاقة الكاتب الأرجنتيني خوسيه لويس بورخيس بالشرق عموماً، وبـ»ألف ليلة وليلة» على الخصوص، تلك العلاقة التي تستشفّ بوضوح كما من مجموع أعماله الأدبية، كذلك من وقائع حياته كقارئ وكاتب عظيم
لا أحد باستطاعته
أن يقرأ إلى النهاية
كتاب الليالي
إنه الزمن، وهو لا ينام،
اذهب وواصل القراءة
في ما النهار يموت
شهرزاد سوف تروي لك قصتك
يرى بورخيس من واقع رفضه للوضع الإنساني المهين أن تجاوزه يكون عبر الأدب الذي يعتبره الحلم الإنساني الخلاق، وهذا بدوره يقوم على الخيال والمدهش والعجيب. أي الهروب من هذا الواقع نحو عالم الخيال. لذلك، توجه بورخيس إلى الفلسفة الشرقية بحثاً عن ينابيع للخيال لم يعثر عليها في الثقافة الغربية. وربما يرجع ولع بورخيس بالثقافات الشرقية إلى رغبته في تجاوز الأطر الضيقة التي فرضتها الثقافة الغربية كنموذج أوحد للواقع، والهروب منها من خلال «اسطورة» الشرق. لذلك لم يتبنى بورخيس من الثقافة الشرقية سوى الجانب «الأسطوري» أي الخيالي، ووجد ضالته في كتاب ألف ليلة وليلة. واعتبرها هي التجسيد الأمثل لرؤيته للعالم، ونظريته الأدبية.
والجدير ذكره، أن بورخيس قام بكتابة دراستين عن هذا الكتاب. في الدراسة الأولى يقوم بتحليل عنوان وبنية «ألف ليلة وليلة» والدراسة الثانية يستعرض فيها الترجمات المختلفة لهذا الكتاب. وأسهب في دراسة وتبيان الأثر الذي لا يمكن إنكاره لكتاب «ألف ليلة وليلة» على الآداب الغربية التي أبدعت أعمالاً لم يكن من الممكن أن تولد دون قراءة هذا الكتاب.
لقد اكتشف بورخيس كتاب ألف ليلة وليلة في طفولته المبكرة حيث قاده تسكعه الأدبي في مكتبة أبيه – هذا التسكع الذي يحدوه فضول لا نهاية له- إلى العثورعلى ترجمة ريتشارد بيرتن بالإنكليزية. وهي ترجمة سوف يقول عنها في ما بعد: «إن ترجمة بيرتن الأنثروبولوجية والبذيئة محررة بلغة إنكليزية غريبة يعود قسم منها إلى القرن الرابع عشر، وهي إنكليزية مملوءة بالكلمات المهجورة وبالألفاظ الجديدة، إنكليزية لا تخلو من جمال وإن كان يعسر أحياناً فهمها.»
وسيصل هوس بورخيس بكتاب ألف ليلة وليلة إلى درجة قراءة كل ترجماته باللغات التي يعرفها:»نكاد نتحدث عن كتب عدة عنوانها «ألف ليلة وليلة»: اثنان بالفرنسية، إحداهما ترجمها انطون غالان؛ وثلاثة بالإنكليزية بقلم بيرتن وادوار لين وباين؛ وثلاثة بالألمانية؛ وواحدة بالإسبانية. وكل واحد من هذه الكتب مختلف عن الكتب الأخرى، إذ إن «الألف ليلة وليلة لا تزال متواصلة، أو مازالت تعيد خلق نفسها.» ويعتبر بورخيس أن عنوان الكتاب هو من أشد الأفكار المدهشة، أي فكرة اللانهاية، يقول وهو يشرح العنوان:»في هذا العنوان «ألف ليلة وليلة» ثمة نوع آخر من الجمال، إنه يكمن كما أعتقد في حقيقة أن كلمة ألف هي رديفة في أذهاننا لكلمة لا متناهي، فإن تقول «ألف ليلة» يعني أن تقول «ليال لا متناهية» إن فكرة اللانهاية هي نفس مادة ألف ليلة وليلة». وقيل إن بورخيس ولما استقر في جنيف في أواخر حياته، بدأ فيها يتعلم اللغة العربية على يدي مدرس مصري من الإسكندرية، وكانت غايته من تعلم العربية هي قراءة ألف ليلة وليلة، بلغتها الأصلية لا في الترجمات، لكن الأجل لم يمهله.
ومن شدة إعجابه بعظمة الكتاب شبهه بعظمة بناء الكاتدرائية، التي يستغرق تشييدها عدداًً غير محدود من السنوات، ويسهم في بنائها وزخرفتها بناؤون، ومهندسون كثر. فألف ليلة وليلة في رأيه حكاياتها من ابتكار آلاف الرواة، ومن شدة تأثره بهذه الحكايات التي تتألق فيها روح الشرق كتب قصيدة سماها «استعارات ألف ليلة وليلة» وفي الأبيات الآتية يتضح هذا الأثر:
العفريت المحبوس في جرة من
النحاس، بخاتم سليمان،
وقَسَمُ ذلك الملك،
الذي يُسلم ملكته لليلة واحدة
لقضاء السيف
والقمر، والوحدة
تلك هي الأودسة المعصورة بعطش المغامرة
وعن فضل كتاب «الليالي العربية» – وهو التسمية الغربية له – على الحركة الرومانسية التي اجتاحت أوروبا، منذ أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر يقول الكاتب الأرجنتيني بورخيس: «عندما نشر جالان مجلده الأول عام 1704 سحر فرنسا العقلانية، التي كان يحكمها لويس الرابع عشر، وعندما نفكر في الحركة الرومانسية، فإننا نفكر عادة في تواريخ جاءت متأخرة، ويمكن القول إن الرومانسية بدأت في اللحظة نفسها، التي قرأ فيها شخص ما في باريس أو النرويج كتاب «ألف ليلة وليلة».ومع ظهور الحركة الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، وثورتها على القواعد الكلاسيكية الصارمة، وفصلها الصارم بين الفن والأخلاق، واحتفائها بقيمة الخيال في الإبداع، وإعادة الاعتبار إلى فنون الشعب، بدأ التنقيب في العالم العربي عن تلك الآثار المهملة، والاعتراف بقيمتها، بوصفها التعبير الحقيقي عن روح الجماعة الشعبية، التي أهملتها مؤسسات الأدب الرسمية طويلاً».
كما ونجد تأثير هذا الكتاب الفاتن لدى فولتير- والذي صرح بأنه لم يصبح قاصاً إلا بعد أن قرأ «ألف ليلة وليلة» أربع عشرة مرة، وتمنى أن يصاب بفقدان الذاكرة، حتى يعيد قراءتها، ويستمتع بها مرة أخرى- في قصصه الفلسفية وخصوصاً في قصة «زاديغ»، ولدى غوته في «الديوان الشرقي الغربي» أو «فيلهلم مايستر»،
فيما يروي غابرييل غارسيا ماركيز في كتاب سيرته الذاتية «عشت لأروي» قصة لقائه الأول مع ألف ليلة وليلة، يقول: «اليوم وأنا أراجع حياتي، أتذكر أن مفهوم القصة عندي كان أولياً، رغم كثرة ما قرأته منها منذ دهشتي الأولى أمام ألف ليلة وليلة. إلى أن تجاسرت على التفكير بأن العجائب التي ترويها شهرزاد كانت تحدث حقيقة، في الحياة اليومية، في زمانها، وأنها ما عادت تحدث لعدم مصداقيتها والجبن الواقعي عند الأجيال اللاحقة».
قريبًا من هذا ما ورد في رواية 100 عام من العزلة، فبينما أوريليانو الثاني مستغرق في قراءة كتاب يحتوي على قصص عجائبية (لا يصرح السارد باسم الكتاب، لكن ودون شك يحيل على ألف ليلة وليلة، فهو يضم قصة علاء والصياد والعفريت..) يخاطب أورسولا إذا كان كل ذلك حقيقيًا، فتجيبه بنعم، و«بأن الغجر كانوا يأتون إلى ماكوندو، مند سنوات طويلة، حاملين معهم مصابيح سحرية وبسطًا طائرة» لكن «ما جرى هو أن العالم أخذ بالضياع شيئًا فشيئًا، ولم تعد هذه الأشياء تأتي». انقضى زمن شهرزاد، زمن ماكوندو، وحل زمن الحضارة، بأنظمتها السياسية المستبدة، واكتشافاتها العلمية المريضة.
يصف ماركيز في كتابه مرحلة انبهاره بحكايات ألف ليلة وليلة. «كنت ألتهمها حرفًا حرفًا بلهفة لأن أعرف وأحب ألا أعرف في آن معًا ما الذي سيجري في الأسطر التالية كيلا أقطع سحرها، وتعلمت ألا أنسى أبدًا أن علينا أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها»، هذا وقد كان الطفل ماركيز على غير علم بعنوان الكتاب: «مرت سنوات عدة قبل أن أعرف أن الكتاب هو ألف ليلة وليلة»، فقد عثر عليه أول مرة في «صندوق يعلوه الغبار في مستودع البيت، كان مفككًا غير كامل، لكنه شدني إلى حد أن خطيب سارة أطلق حين مر بي تحذيرًا صعبًا: « يا للهول! هذا الصبي سيصبح كاتباً». ووفقًا لتداعي الأفكار تحضرني صورة الفتى أوريليانو الثاني وهو في غرفة ميلكيادس يقرأ كتابًا دون عنوان أو غلاف. لكن الأهم من هذا الملاحظة المفاجئة للسارد: «عندما أنهى قراءة الكتاب، وكانت قصص كثيرة فيه غير كاملة لأن صفحاته ناقصة»، إنه تلميح مباشر لألف ليلة وليلة، «كتاب ما فتئ يغتني ويتعدل ويكتمل عبر العصور. كتاب أساسًا غير مكتمل، لا منته، لا نهائي، ولا يلغي أية إمكانية أخرى.»
ومن جانبه يؤكد الكاتب الايطالي أمبرتو إيكو أن الروايات الكبرى في الثقافة الغربية من «دون كيشوت» إلى «الحرب والسلام» ومن «موبي ديك» إلى «الدكتور فاوست» كتبت بتأثير من «ألف ليلة وليلة» .
وثمة حقيقة لا بد من الاعتراف بها، وهي على الرغم من حضور نص «ألف ليلة وليلة «الطاغي في الذاكرة، والتداول الواسع الذي حظي به، فإنه لم يحتل المكانة اللائقة به، التي يسوغها تأثيره الملموس في دائرة التفكير العربي، إبداعاً وموروثاً، ومع ذلك ستظل ألف ليلة وليلة حكايات تشبه نصاً مفتوحاً ولغزاً عميقاً وشفافاً، يتشكل معناه في كل زمن وفي كل عقل.
لكل هذا وذاك ظل كتاب «ألف ليلة وليلة « غريباً، مستبعداً ومهمشاً، منبوذاً ومستهجناً من قِبل النخبة الثقافية يرويه القُصّاص الشعبيون للجمهور، ويضيفون عليه من عندهم جيلاً بعد جيل. ويرجع الفضل للمستشرقين في رد الاعتبار لهذا الأثر العظيم، وإبراز ما ينطوي عليه من سحر وجمال.
العدد 1106 – 9- 8-2022