الثورة – أديب مخزوم:
تمر الذكرى الثانية لرحيل الفنان عاصم زكريا، وتبقى لوحاته التي قدمها على مدى أكثر من نصف قرن شاهدة على مدى تمسكه بقواعد الرسم الواقعي الحديث، القائم على موضوعات الطبيعة والأزهار والبنى المعمارية القديمة، والمجسدة بلمسة عفوية تتضمن انفعالاً وتحمل مواصفات العمل الواقعي الحديث، فقد كان يؤمن بالفن الواقعي الحديث كمنطلق حضاري للوحة المحلية، وبضرورة وجود موضوع في اللوحة مستمد من الأحداث التاريخية والوطنية الكبرى ( مثل لوحته البانورامية معركة ميسلون )، ومن تأملات العناصر الإنسانية والوجوه والطبيعة المحلية والتراث المعماري، بحيث ظهرت مجمل لوحاته السابقة والجديدة، التي عرض نماذج منها، في صالة الآرت هاوس عام 2018، تحت عنوان: دمشق الذاكرة، بمثابة صياغات واقعية حديثة، مستمدة من إيقاعات العمارة القديمة والوجوه والأجواء الشعبية.
ولوحاته تشكل عودة، إلى جماليات التلوين العفوي، القريب من اجتهادات الفنانين الواقعيين المحدثين، وهذا يعني أنه كان يتجاوز الانطباعات التسجيلية المباشرة، ويصل إلى تقنية إظهار اللمسات المتتابعة والمتراقصة في فراغ السطح التصويري، كما كان ينحاز إلى طريقة إبراز اللطخات أو الكثافة اللونية، التي تظهر حالات التعبير عن الدفق الداخلي الذي يبرز هنا كصدى لتأملات تكاوين اللوحة التعبيرية والانطباعية والواقعية الجديدة.
هكذا لم تكن لوحاته، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، إلا ردة فعل عفوية للحفاظ على قواعد الرسم الواقعي الحديث، الشيء الذي يؤكد تمسكه بالنهج التصويري، المجسد بلمسة عفوية تتضمن انفعالاً، وتحمل مواصفات العمل الواقعي الحديث، حيث كان يرفض الدخول في إشكاليات التجريد، ويؤمن بالفن الواقعي الحديث كمنطلق حضاري للوحة المحلية القادرة على تسجيل إيقاعات الأشكال دون فقدان بريقها اللوني المحلي، لاسيما وأن العناصر ظهرت في لوحاته بشكل عفوي وتلقائي، وبذلك جمع في اللوحة الواحدة ما بين معطيات الرسم الواقعي، وبين اختبارات البحث عن طريقة تعبيرية جديدة ملائمة لتأملات الأشكال المعمارية التراثية وغيرها من المواضيع.
فهو تربى على الألوان المترسخة في القلب والوجدان منذ الطفولة، ولهذا كان يترك الريشة تساير تجليات أو تداعيات الأحاسيس لاقتناص اللحظات والمشاعر الداخلية التي تفرض على اللوحة اتجاهاً أسلوبياً، وبمعنى آخر إن اللوحة التي ترتكز على المشاعر والأحاسيس هي مدخل حقيقي لتغيير النظرة الجمالية تجاه المواضيع المعينة، فالصدق الفني والإحساس في العمل الإبداعي يلغي الرتابة حتى في الموضوع الواحد.
فهو فنان واقعي حديث رسم تفاصيل الواقع وتدرجات الظل والنور والإحساس بهذا الواقع، رسم المشاعر والأحاسيس وإيقاعات اللون والخط والأضواء الباهرة، التي تلامس عناصر الواقع في وقت الظهيرة عندما تكون الشمس في أوجها.
كما ركَّز لإظهار حركة الأشخاص في المشهد المعماري، وأظهر في أحيان كثيرة كثافة الشخوص في اللوحة الواحدة.
وما اللمسات التلقائية التي نشاهدها في نهاية المطاف إلا طريقة لإيجاد توازنات منطقية بين بعض القواعد الواقعية (المحافظة على النسب مثلاً في رسم الوجوه والشخوص) وبين التقنيات الفنية الحديثة (اعتماد اللمسات العفوية المتتابعة والمتراقصة) فالتوجه الرئيسي في تجربته كان يغذي هذا الجانب الملائم لهواجس وتطلعات الواقعية الحديثة أو الأكاديمية المتحررة. فقد تجاوز بعض الأسس التقليدية للوحة الواقعية، وحافظ على بعض الأسس الأخرى.
وكان يوزع لمساته اللونية الساطعة أو يضاعفها وينثرها في المساحة بما يضمن حضور الضوء الشرقي، ويبرز خصوصية في معالجة الألوان عبر لمسات قريبة من تقنيات فنون العصر، عن طريق تسميك العجينة اللونية، التي كان يجعل منها مادة ذات أبعاد جمالية وتعبيرية تنقل الحس المباشر الداخلي. فألوان الجدران والأزقة والنوافذ وغيرها تبرز بانفعال وبمعالجة تهتم بمسألة إظهار بريق النور فيها.
ونجد تنقلاً من طريقة التركيز لإظهار البريق اللوني إلى تقنية استخدام الأجواء التي توحي بالتقشف اللوني، والاعتماد على لونين ودرجاتهما، وهنا يُخضع معطيات العمل البصرية لحركة البياض اللوني.
وبذلك كان يترك عمله عرضة لتبدلات حالته النفسية، وهذا لاشك عمل على إغناء القدرة التعبيرية وأضفى إيقاعية بصرية أكثر حركة وحيوية.
إن الخبرة التقنية في المظهرين التكويني والتلويني، التي تبرز بجلاء في مساحات أعماله، تحمل كل المعطيات التي كسبها في حياته الفنية. وأعماله تختصر تداعيات ثقافة بصرية، وتكشف تعبيراً ينقلنا إلى حالة شعرية أكثر عمقاً ودلالة، وعرضة لتبدلات الحالة الداخلية التي كان يعيشها أثناء إنجاز اللوحة.