الثورة _ فؤاد مسعد:
اكتسب محبة الناس الكبيرة من فعل العطاء الذي جاء نابعاً من عمق روحه ووجدانه ومبادئه وثقافته ومفهومه للحياة ، كان كالبّناء الذي يشيد الأبنية أينما حل ، وعندما انطلق ببناء صرحه الكبيرة جوقات (لونا) بدأ ببنائه حجر فوق آخر حتى أمسى مؤسسة متكاملة تنشئ الأجيال وتعلّم حب العطاء ونشر الفرح ، وكان فيها كعادته حجر الزاوية الذي لا يكل ولا يمل وهمه إعلاء البنيان بحب لرؤية البراعم وهي تنمو وتزهر وتبدأ هي الأخرى بالعطاء أينما حلت في مختلف أرجاء دول العالم ، إنه المُعلم والمبدع حسام الدين بريمو الذي توفى عن عمر يناهز الستين عاماً (توّلد دمشق 1962) ، هو الأخ والصديق لكل من عرفه ، رجل مليء بالمعرفة وشغوف بالتجريب والاستكشاف والبحث ، وما عطاءاته الموسيقية على أكثر من صعيد بما فيها التأليف الموسيقي وتأسيس وقيادة الجوقات والسعي إلى تطوير التراث إلا دلائل ناصعة على ما ترك من أثر .
منذ بداية اكتشاف مرضه عاش معه جولات استطاع في كل مرة فيها التغلب عليه والمضي قدماً نحو حياة سعى عبرها إلى ترجمة ما يعتلج داخله من أحلام وآمال وهواجس تسكن روحه ، إلا أنه خسر جولته الأخيرة في معركة قاسمة كان الموت فيها هو الأسرع إليه فنال منه جسداً ولكنه باق في وجدان وقلوب محبيه .
فقد كان الراحل دائم الطموح حتى في قمة مرضه وألمه ، متطلعاً إلى مشاريع جديدة يريد تحقيقيها ، فهناك الكثير الكثير مما أراد إنجازه مع الجوقات التي يقودها تهيئة لعيد الميلاد المجيد ولمناسبات أخرى ، ولم يكن لديه وقت للموت فكيف غافله ونال منه ؟.. أحقاً للموت قدرة على إنهاء حياة مبدع ؟.. سؤال ربما تجيب عنه أعمال كُتبت بنبض الروح لمبدع سعى جاهداً أن يعكس ثقافته وروحه وفكره وآلية تعاطيه مع الحياة عبر ما يقدم من إبداع ، فكتب أسطر عطائه بأحرف من نور تحمل ميّزة الخلود ، إنه عطاء يصعب على الزمن التجرؤ للنيل منه لأنه راسخ في عقول وأفئدة الكثيرين .
حسام الدين بريمو مؤلف موسيقي ومعاون مدير الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون ومؤسس ومدرب للعديد من الجوقات وسبق أن شغل العديد مناصب ، ولكن لم يكن يطيب له مناداته بالمايسترو وإنما كان يفضل دائماً لقب (أستاذ) لأنه رأى فيه بعد أعمق وأكبر ويترجم ما كان يقوم به من جهد في التعليم والتدريب والبحث ، هو قدوة وعراب العديد من المبدعين الذي باتوا موسيقيين ومطربين معروفين على الساحة ، آمن بمواهب واعدة عديدة ومد لها يد المساعدة وكان الراعي والأب والأخ والصديق والداعم لها ، يعرف كيف يزرع الثقة وينمي الغرس في نفوس من امتلكوا الموهبة الحقة واحتاجوا لمن يقف إلى جانبهم بنبل وسمو . إنه مبدع من الطراز الرفيع حفر الصخر بيديه ليُخرج منه ماءً ، هكذا كان منذ الإرهاصات الأولى لبداياته عبر مسيرة عطاء زاخرة بالمحطات المضيئة ، لم يركن للمستحيل وإنما يطوّعه بإيمان وثقة كبيرة أنه يمتلك القدرة لفعل ذلك .
هو مؤسس وقائد جوقات لونا للغناء الجماعي التي تضم خمسة كورالات بأعمار مختلفة (قوس قزح ، ألوان ، ورد ، سنا ، شام) إضافة إلى أوركسترا (ندى) المؤلفة من عازفين على مختلف الآلات يرافقون الجوقات الخمس في غنائها كما يقيمون حفلاتهم الموسيقية ، كما درّب العديد من الكورالات منها (جوى) و (دهب عتيق) .
إنه غيض من فيض كثير وثر ، فلدى الحديث عن مبدع بحجم حسام الدين بريمو لن تتسع الأسطر وستعجز الكلمات ، ولكن يشفع لها أنها تشكل في مجموعها حالة حب ووفاء لمن أعطى من قلبه الكثير بصدق وحب لفنه ولجمهوره ، لقد كانت محبته للآخرين تفوح كعطر ياسمين الشام بطيبة وعفوية وقلب كبير ، ذلك العطر الذي يصعب تجاهله إن حل في مكان لما يمتلك من سمات تجعل من صاحبه إنساناً بكل مقاييس الإنسانية وفناناً يعطي من قلبه وذاته الكثير .. رحم الله المبدع الكبير حسام الدين بريمو وليكن ذكره مؤبداً .