خميس بن عبيد القطيطي – كاتب من سلطنة عمان:
لا يمكن فهم قيمة التجربة الناصرية ووجود قيادة عربية محورية بحجم الزعيم جمال عبد الناصر دون سبر أعماق ودلالات هذه التجربة العظيمة، ويتضح مدى الحاجة لهكذا قيادات في تأسيس المشروع القومي والعمل العربي المشترك، لذا فإن ما يمثله هذا الزعيم كان حلماً للملايين لكونه كان يحمل مشروعاً معززاً بالإرادة، وفي عهده كان العالم ينظر إلى الوطن العربي ككتلة واحدة تحمل معها جميع مقومات النهضة من قيادة محورية وشعوب ثائرة أدركت معنى الحرية والتخلص من الاستعمار والعدالة الاجتماعية التي كان عبد الناصر رسولها وناضل من أجلها.
هذه الشعوب شكلت حقيقة الأمة الواحدة بما تمثله من قوة بشرية هائلة ومساحة جغرافية وقيادة محورية مسكونة بالإرادة والتحدي والعنفوان؛ فجاءت التجربة الناصرية لصقلها واستنفار طاقاتها واستثمار مخزونها التاريخي ومؤهلاتها، فحددت مسارها وقضيتها المقدسة ومشروعها القومي، فحاولت قوى الاستعمار استهدافها في مهدها وكبح جماحها لكنها تجلت في أبرز ملاحمها التاريخية لتشكل معركة بورسعيد والعدوان الثلاثي خير شاهد على تلك الروح الفتية، فكانت أول ضربة ضد قوى الاستعمار تغنى بها الفنان عبد الحليم حافظ (ضربة كانت من معلم.. خلى الاستعمار يسلم) فخرجت التجربة منتصرة بقيادتها واستمرت في سياقها الثوري لم تنكسر إرادتها ولم تخور عزائمها ولم يتقهقر إقدامها حتى في أحلك الظروف.
تاريخ التجربة الناصرية تؤكده حقائق التاريخ فالاستعمار الجاثم على الأرض العربية شهد نهايته ليس في مصر وحدها عندما وقع فيها الاحتلال الانجليزي اتفاقية الجلاء عام ١٩٥٤، لكن الحراك الثوري التحرري طال جميع أقطار الوطن العربي وكان الداعم الأول له جمال عبد الناصر، يكفي أن الثورة الجزائرية التي استمرت (١٣٢) سنة سجل التاريخ فيها أدواراً مضيئة لمصر عبد الناصر بدعمه السياسي والمادي والمعنوي اللامحدود، وكذلك الحال في مختلف أقطار الوطن العربي فقد كان عبد الناصر يحمل معه حلم الجماهير بالتحرير، فتجاوز الحالة القطرية إلى القومية والعالمية لذلك بقي خالداً حاضراً في ذاكرة الجماهير من المحيط إلى الخليج.
في ذكرى رحيله ال52 التي يحتفل بها الملايين في أرجاء الوطن العربي الكبير نؤكد أن الأمة العربية تبحث عن قيادة محورية تلم شتات نظامها الرسمي حيث عجز كل من جاء بعد عبد الناصر عن جمع شتاتها فما أحوج العرب إليه اليوم! وعندما ترفع الملايين صوره في كل مناسبة قومية اليوم و غداً فذلك يمثل دلالات عميقة في ذاكرة التاريخ، فرغم رحيله المبكر في الثانية والخمسين من العمر ورغم مرور مثلها من السنوات (52) عاماً على غيابه لكنه ظل حاضراً في الذاكرة الجماهيرية فهو القائد الخالد الذي كان يمثل العقبة الكأداء أمام قوى الاستعمار، كما أنه ورغم كل محاولات الأعداء لتشويه تاريخه وتجربته إلا أنه ظل خالداً وشوكة في حلق الأعداء لأنه صاحب تجربة صادقة أخلص وأفنى عمره من أجلها فهيأ الله سبحانه من يدافع عنه وعن تجربته، وكما قال أحدهم بيننا وبينهم الجنائز يشير إلى جنازة عبد الناصر التي كانت أكبر جنازة في التاريخ السياسي، وهذه الحقيقة بلا شك تمثل علامة مضيئة في التاريخ لا يختلف حولها إلا الحاقدين.
العدالة الاجتماعية التي حمل رسالتها عبد الناصر تجسدت أولاً في حياته الشخصية فانعكست قيمتها على الواقع المعيشي لأبناء مصر فقال كلمته: “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد” نعم لقد انتشلت هذه التجربة الفئة الكادحة من العمال والفلاحين والفقراء من حياة البؤس والفقر والمرض والعوز والعمل بالسخرة لدى مجتمع ال٥% (طبقة رأس المال والباشاوات وملاك الأراضي) فجاء ناصر محرراً لهم مانحاً لهم الأراضي الزراعية فأقر قانون الإصلاح الزراعي وبنى السد العالي فقفزت الزراعة والصناعة والتنمية قفزة كبيرة وتوزعت الثروة. نعم لقد وفر لهم جمال عبد الناصر الحياة الكريمة فكانت هذه الجماهير على الوعد والموعد في كل الظروف والمحطات الفاصلة في تاريخ التجربة لتقدم التضحيات في سبيل الوطن.
حقق عبد الناصر العديد من المنجزات على صعيد القطر المصري والوطن العربي الكبير بل تجاوز الحدود الإقليمية إلى العالمية فكان كل تاريخه ثورات، فعلى الصعيد الداخلي كانت هناك ثورات في التعليم والصحة والحياة المعيشية والتنمية الاقتصادية والبشرية وهذه المنجزات جاءت بالأرقام حسب تقارير التنمية للأمم المتحدة، ويكفي عبد الناصر رمزية أن يخرج الملايين مطالبين بالتراجع عن الاستقالة بعد هزيمة 1967 في أضخم استفتاء شعبي على زعيم في التاريخ، نعم لقد قضت مشيئة الله أن يعود عبد الناصر مظفراً باستفتاء شعبي عظيم رافضاً استقالته مطالباً له بإكمال المسيرة، فقد أدركت الجماهير ما تعنيه قيادة عبد الناصر رغم أنه أقر بمسؤوليته عن الخسارة لكن الشعب العظيم بفطرته يدرك أنه القائد الذي يحمل معه المشروع وحلم الجماهير، فعاد عبد الناصر متوجاً بعهد جديد بدأ بتصحيح جوانب هامة من تجربته،
فقد أحدثت الهزيمة في 67 تحولات كبرى في تاريخ التجربة فرسم بعدها عبد الناصر أبجدية الانتصار وهذا ما يؤكده جميع القادة الذين شهدوا على مرحلة الإعداد والتجهيز لحرب استرداد الكرامة التي بدأت بعد (40) يومياً فقط بمعركة رأس العش وآخر تلك العمليات كان تحريك حائط الصواريخ على ضفة القناة ليكمل الجيش المصري أبجديات الاستعداد لمعركة العرب الكبرى التي خطط وأعد لها عبد الناصر.
في ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر نؤكد أن استقراء التجربة تتطلب أمانة في البحث والتحري والتعمق فيها كتجربة حاكمة ثورية نضالية حسب ظروف تلك المرحلة وتمتعت هذه التجربة بالإرادة والإصرار على تحقيق كل أولوياته الوطنية والقومية فارتكزت التجربة على قواعدها الثلاث الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة القومية فقادها بكل إخلاص واتسمت بالشراكة الجماهيرية التي ظل مرتبطاً بها عبد الناصر يخاطبها في كل مناسبة عبر ذراعه الإعلامية صوت العرب فتفاعلت تلك الجماهير مع كل صرخة من حنجرة هذا الزعيم تدوي في القاهرة إلى مختلف الساحات العربية فكانت تجربة حكم عظيمة كرست مبادئ إنسانية تحاكي الواقع العربي وتناجي الأجيال العربية التي ظلت تنادي عبد الناصر: “أبا خالـد أشكـو إليــك مـواجعـي ومثلــي له عــذرٌ .. ومثلك يعــذرُ” وهنا نلتمس العذر لهذه الأجيال وللشاعر الكبير نزار قباني الذي قدم روائعه في رثاء الزعيم جمال عبد الناصر رحمه الله وطيب ثراه.
* المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة الوطن العمانية ورأي اليوم.