الثورة-أديب مخزوم:
خلال تجوالنا في المعرض السنوي 2022 لفتت نظرنا لوحة الفنانة والشاعرة الشابة خلود كريمو بقياسها الكبير، والتي حققت من خلالها قفزة نوعية على الصعيدين التشكيلي والتقني، وكنا في السنوات الأخيرة قد تابعنا، تحولات مواضيع الوجوه في أعمالها، من خلال العديد من المعارض الجماعية الرسمية التي أقيمت تحت رعاية وزارة الثقافة، وشاركت فيها، ومنذ بدايات رحلتها مع الخط واللون، باستثناء مرحلة الطبيعة التي عالجتها برؤية واقعية وتحولت عنها، نجدها تعمل على موضوع واحد، هو الوجه وخاصة وجه المرأة، حتى تحول الوجه في لوحاتها إلى حالة من التعبير الذاتي المجسد بالمساحات اللونية الصريحة والعفوية والمتناظرة أحياناً.
وفي هذا النطاق يمكن اعتبار الوجه أحد رؤى مخيلتها دائماً، ويمكن القول أن الوجوه التي تقدمها لها دلالاتها في العلاقة بين الناحية الجمالية والناحية التعبيرية المرتبطة بالواقع المأساوي . ولقد وصلت من خلاله إلى نوع من الصياغة العفوية (التي تطورت بسرعة قياسية) حيث تدمج بين عدة حالات وتجليات لموضوعها الحميمي ـــــ الوجه، من خلال الانفتاح على تحولات ثقافة فنون العصر .
وكانت لوحات خلود كريمو قد شكلت في مرحلة بداياتها, مدخلاً لاستشفاف جوهر الرسم الواقعي ، الأكثر ارتباطاً بالوعي والنمنمة التفصيلية، شأن مجمل الفنانين في بداياتهم ، فقد مارست ، في مستهل حياتها الفنية ، تقنية الرسم الواقعي، وكانت ترسم مشاهد الطبيعة وغيرها، بدقة واتزان وحسب معطيات الأساليب القديمة. إلا أنها في مراحل لاحقة أخذت تشعر بأهمية وجمالية اللمسة العفوية، التي تملص المواضيع المطروحة من برودة الأداء الكلاسيكي، وتمنحها حيوية لونية تتوافق مع منطلقات الاتجاه التشكيلي الحديث والمعاصر، الذي يبرز الحالة الانفعالية في فضاء المنظر، بقدر الاهتمام بإظهار المنظور الضوئي، والتمازج بين النور واللون، والإضاءة المتدفقة في فسحات متفرقة من اللوحة.
وخلود كريمو تجيد كتابة القصائد العمودية، التي تفيض رومانسية وجمالية وشاعرية، فهي تنظم الشعر بالألوان ولوحتها تبرز كقصيدة عازفة على أوتار المشاعر، هكذا تبرز حالات التداخل والتبادل بين السمعي والبصري، وبين ماهو مرسوم وماهو مقروء، وتنطلق في رحاب البحث عن لمسات ومساحات، مشحونة بتداعيات الحالة الداخلية، ومتملصة من أفقية الامتداد الواقعي والتسجيلي.
وفي أعمالها يبرز الهاجس التلويني الصريح كعنصر أساسي في مختلف لوحاتها، التي استعادت من خلالها الوجوه المعبرة عن حالات الضياع والتوتر والقلق وفقدان الأمل، وشكلت لوحاتها المدخل لمواصلة بحوثها التشكيلية والتقنية، والتي وصلت في لوحاتها الأخيرة ، إلى حدود التعبير البانورامي لملامح الوجوه وتعابير العيون ، حتى أن لوحاتها شكلت لي مفاجأة بسرعة تطورها وحضورها، في أهم تظاهرة سنوية، وهي تظاهرة المعرض السنوي العام .
هكذا يمكننا التماس تطور تجربتها، خلال سنوات قليلة، حيث تتكثف مفردات التعبير التشكيلي، مع تقلبات المشاعر والأحاسيس الداخلية لتبرز في النهاية هذا التحول المفاجئ، في تجربتها نحو إيماءات الوجوه المتداخلة والمتخيلة في فضاء اللوحة . فالأداء التشكيلي الذي تجسده في حالات التكوين والتلوين، يبعدنا مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة، ويدخلنا في إطار الحالة التعبيرية المتداخلة لملامح الوجوه وتعابير العيون، مع إعطاء أهمية لجمالية الوجوه، وهذا يكثف من حالات المفارقة الصارخة بين الجمال الأنثوي، والواقع المتردي والمفجع ، أو يزيد من وضوح الرؤية التعبيرية المأساوية ، في رموزها وعلاماتها وأبعادها ودلالاتها الإيحائية . ولقد كانت في مراحل سابقة، تركز وفي كل لوحة لإظهار جمالية الوجه الواحد المنبثق من الرؤية الحلمية، والذي كان يشغل كامل مساحة اللوحة . والبحث عن فضاء تعبيري إنساني، فتح لوحاتها على احتمالات تعبيرية تصل في أحيان كثيرة إلى حدود جعل الوجه يبرز بصورة كبيرة، أو بمساحة لوحة كبيرة، مع الذهاب به إلى حالات التبسيط والاختزال والتعبير بمساحات اللون المتناظر أحياناً، إلى مناخات لونية وتعبيرية لهذا الوجه، مشغولة بإحساس وعاطفة وانفعال متصاعد من أوجاع الناس في أزمنة الحروب الراهنة، على اعتبار أن توترات الحالة الداخلية مرتبطة بتوترات الحياة الخارجية.
التالي