الملحق الثقافي– دلال إبراهيم:
حتمية التغير والتطور المستمر للحياة يُحتم على اللّغة مسايرة هذا التطور والتغيير، حتى أن اللّغة ترفض البقاء في مكانها، ولأن اللّغة تتغير، فإنها ستصل في لحظة ما إلى إنتاج لغة جديدة مختلفة، والسؤال هنا: كيف يحدث تطور اللّغات حتى تنسلخ لغة جديدة من لغة أقدم؟
يميل العلماء والباحثون إلى رأيين مختلفين في مسألة نشأة اللّغة فمنهم من يقول بأنَّ اللّغة خُلقت مع الإنسان، ومنهم من يقول بأنها تطوّرت ببطءٍ خلال مراحل النمو المختلفة للبشر، ولكن ووفقاً للغويين الأشهر في العالم دويتشر وماكوورتير يبقى أصل ظهور اللّغة غامضاً منذ آلاف السنين وحتى وقتنا الحالي.
وليس ثمة رأي ثابت في مسألة نشأة اللّغات في العالم، فهي من الأمور المختلف عليها، ثمة اعتقادات دينية، على غرار واقعة برج بابل في سفر التكوين في التوراة حيث تقول الرواية هنا «بددهم يهوه من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بناء المدينة» لذلك ادعى أن اسمها بابل، لأن يهوه هناك بلبل لغة كل الأرض وحتى يُقال إن سلالة من أبناء النبي نوح، شرعوا فى بناء برج بابل، وذلك لرغبتهم أن يوصلوه إلى السماء، لكن الإله السرمدي فرق الألسن (أي بلبلها) بحسب السفر ليمنعهم من تحقيق أمنيتهم وشتتهم بعدئذ فى مغارب الأرض ومشارقها.
وتشير بعض الدراسات البحثية في نتائجها بأن البابلية هي اللّغة الأم القديمة التي تكلم بها البشر منذ ما يزيد عن 5000 عام، وذلك ربما تماشياً مع أن أقدم سجلات مكتوبة ومعروفة حتى الآن هي صور الكلمات السومرية المكتوبة قبل حوالي خمسة آلاف وخمسمائة عام، أي في حدود 3500 ق.م، فيما وجدت سجلات مكتوبة باللّغة الصينية ترجع إلى قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، أي في حدود 1500 ق.م، كما وجدت سجلات بالكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة قبل خمسة آلاف عام.
ومما لا شك فيه أن جميع هذه اللّغات الأولية قد اندثرت مع اندثار حواضنها الحضارية والبشرية إذ نستطيع أن نطلق عليها وصف اللّغات الميتة لغيابها تماماً عن المشهد اللّغوي المعاصر.
كما ويفترض بعض العلماء أن اللّغات العصرية تفرعت من لغة أصلية واحدة هي «اللّغة الأم» التي يظنون أن البشر نطقوا بها قبل حوالي 000,100 سنة، ويدعي آخرون أن اللّغات اليوم تعود جذورها إلى لغات أصلية عديدة استُخدمت منذ 000,6 سنة على الأقل، وتذكر مجلة ذي إيكونوميست «هنا تكمن المشكلة! فبخلاف علماء الأحياء، ليس لدى علماء اللّغة أحافير تروي لهم أحداث الماضي».، وتضيف هذه المجلة إن أحد العلماء الباحثين في تطور اللّغة يخلص إلى استنتاجاته معتمداً على «تخمينات ترتكز على عمليات حسابية».
فيما هناك نظرية تسمى نظرية «البو-وو» تقول (إن اللّغة نشأت من الصرخات غير المبينة للحيوانات)، وأكد ذلك مايكل كورباليس في كتابه «في نشأة اللّغة» بقوله إن البشر منحدرون إلى فئة الطيور مثبتاً بذلك أن الطيور تسعى على ساقين كالبشر، والببغاء مثلاً يفضل التقاط الأشياء بقدم واحدة، ولا نغفل عن الإيحاءات والأصوات التي تصدرها الطيور، أصبح يقلدها الإنسان عندما وجد على الأرض كالبكاء والصراخ وفقاً للرغبة بالأشياء إلى أن خرجت لغة تفرد بها البشر بعيداً عن الطيور.
وثمة علماء رجحت نظرية الانتقاء الطبيعي، أي تنطبق نظرية داروين على الكلمات كما تنطبق على الجينات، ومن خلال هذا المنظور طبق أستاذ علم الأحياء بجامعة بنسلفانيا، جوشوا بلوتكين، مؤخراً مبادئ علم الأحياء التطوري في دراسة علم اللّغة، ليتمكن من تقديم سبب جديد لتطور اللّغة ونشأتها، يشبه ما يحدث في الجينات، تماماً مثل الطفرات الجينية العشوائية، تتغير اللّغات لأنها تنتقل من جيل أو منطقة جغرافية إلى أخرى، وهي عملية تُعرف باسم «الإنجراف اللغوي».
كيف هذا؟ في الجينات نحن نعرف أن هناك عملية نسخ مستمرة للحمض النووي لتكوين نسخ منه في الخلايا الجديدة المتكونة، لكن عملية النسخ هذه ليست كاملة وأحياناً تنشأ نسخ بها عيوب وغير متطابقة مع النسخة الأصلية، وهو ما انطلق عليه اسم الطفرات، كذلك الأمر في الكلمات، فعملية نسخ اللّغة وتكرارها بمرور الوقت من الآباء والأشقاء والمجتمع إلى الأطفال الأصغر هي أيضاً غير كاملة.
الدراسة السابقة أجريت على اللّغة الإنجليزية، ولاحظت أن هناك حالات بالفعل فضل فيها الانتقاء الطبيعي مصطلحات معينة غير متداولة أو موجودة من الأساس، نحن نعرف مثلاً أنه في الإنجليزية توجد أفعال شاذة عند تحويلها للماضي، حتى أن استخدام الفعل المساعد Do في الإنجليزية للنفي هو أمر مستحدث ولا يوجد في الإنجليزية الأصلية، وكل هذا سببه ظاهرة الإنجراف العشوائي التي تحدث تدريجياً على مدى زمني طويل لتفاجأ بعدها بنشأة لغة جديدة تماماً.
وفي بعض الحالات، تتغير اللّغات لأن احتياجات المتحدثين أنفسهم تتغير، خاصة وأن التكنولوجيا الجديدة لكل عصر وأساليب الحياة المتغيرة والمتطورة تتطلب طرقاً جديدة للتحدث عنها.
على سبيل المثال، يعتقد العديد من الخبراء أن كمية المفردات الفنية واللّغة العامية التي نستخدمها في الحياة اليومية تنمو حالياً بشكل أسرع من أي وقت مضى، وذلك بسبب اتصال ما يقرب من نصف سكان العالم الآن بالإنترنت، هذا يتسبب في إنشاء أفكار وكلمات وعبارات جديدة وتعميمها، هذا الأمر أيضاً كان يحدث سابقاً لكن بمعدلات أقل بسبب نقص التواصل.
هذا الأمر مألوف عندنا في العربية خصوصاً مع التطور العلمي الغربي ونشأة مصطلحات جديدة علمية لكنها أصبحت دارجة، فأخذناها نحن العرب وعربناها كما هي، ولم نبحث عن مقابل ما لها في اللًغة، المثال الأبرز أننا نستخدم كلمة «تكنولوجيا» أكثر بكثير من «تقنية»، كذلك نحن نقول «جيم» بدلاً من «صالة ألعاب رياضية»، كل هذه الكلمات الإنجليزية في لغتنا اليومية لها تأثير لاحق فينا.
وفيما يتعلق باللّغة الفرنسية كلنا يعرف أن اللّغة الفرنسية منحدرة من اللّغة اللاتينية، وهي لغة الإمبراطورية الرومانية، عندما غزت روما فرنسا عام 52 قبل الميلاد، كان يسكن فرنسا أشخاص يتحدثون اللّغة السلتية، كما تأثرت الفرنسية عند نشأتها باللّغة الغالية، ويمكن القول إن اللّغة الفرنسية تطورت من اللّغة اللاتينية العامية المتأثرة باللّغة الغالية على لسان القوم السلتيين، مما أحدث طريقة نطق مختلفة لبعض الأحرف في اللاتينية خصوصاً حروف العلة.
ليس هذا فحسب، بل إن الفرنسية شهدت تغيرات عديدة على مر القرون بسبب غزو القبائل الجرمانية لغرب أوروبا ثم دخلت العديد من كلمات الفرنسية الحالية في أعقاب سيطرة دوقية نورماندي على فرنسا وغيرها من التطورات.
وباختصار يمكننا القول أن عملية التكلم والتحدث هي عملية ديناميكية تدخل فيها الكثير من العوامل، مثل الثقافة، والحاجات، والنطاق الجغرافي، وطبيعة الناس وغيرها، لذلك، فإن كيفية نشأة لغة جديدة لا تسير في طريق واحد فقط، بل لها عدة طرق وآليات يمكن أن تتبع إحداها أو أكثر من طريق.
العدد 1125 – 20-12-2022