تسابقت الفضائيات العربية، كما هي العادة، على تقديم أشهر نجوم الغناء في سهراتها المخصصة للاحتفال برأس السنة، لكن هؤلاء النجوم لم يعودوا، منذ عدة سنوات، يتنافسون بين بعضهم بقدر ما صاروا يتنافسون مجتمعين مع خلفاء (البصارات) والمنجمين، من المتنبئين بأحداث المستقبل، و(علماء الفلك) الذين صاروا نجوم سهرات رأس السنة التلفزيونية، وملوكها غير المتوجين..
الأمر بدا بما يشبه الطرفة، وقسم كبير من المشاهدين تعاملوا معه بفضول غير مصدق، لكن الحال بدأ يتحول مع تكريس أسماء بذاتها في (علم التنجيم)، ومع إصرار بعض الفضائيات، أو معظمها، على تأكيد صحة تنبؤات منجّميها من خلال استعراض تنبؤاتهم مطلع العام المنصرم في سهرة العام العتيد، وللأمانة يجب القول إن البث الفضائي العربي قدم خدمة غير مسبوقة للعاملين في مجال التبصير والتنجيم وسواها من التسميات المتعلقة بما يسمى زوراً وبهتاناً علوم الفلك، حتى إنه في بعض الأوقات كانت هناك فضائيات متخصصة بعلم النصب والاحتيال على المشاهدين التواقين لمعرفة ما يخبئ لهم المستقبل، أو إيجاد حل لمشاكلهم المستعصية.. وفي زمن مضى قدم أحد أشهر الفلكيين نفسه على أنه رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين، ولم يكن هذا الاتحاد يضم غيره سوى عضو واحد هي امرأة تكني نفسها باسم ابنها وتصف نفسها في الإعلانات الصحفية بأنها نائب رئيس الاتحاد، وما لبث أن قفزت إلى الموقع الأول بعد مقتل رئيس الاتحاد في العاصمة الأوروبية التي كان يقيم بها لأسباب ظلت مجهولة، وتردد أن لها علاقة بالاحتيال والابتزاز.. والطريف أن الراحل كان يكتب الأبراج يومياً لمحطة إذاعية عربية تبث من أوروبا، وكان العاملون في المحطة يتعاملون بكثير من الاهتمام مع (تنبؤاته المعتمدة على علم الفلك) إلى أن جاء اليوم الذي نسي فيه إرسال تنبؤاته تلك فلما ذكرّته بها مذيعة المحطة طلب منها بـ (المونة) أن تكتب الأبراج بدلاً عنه، وباسمه، وأن تحفظ الأمر سراً بينهما، وهذا ما كان..
نعود إلى فلكيي الفضائيات العربية، وقد قامت إحداهن بعرض شريط تلفزيوني (فوتو مونتاج)عن تنبؤات عرَافها مطلع عام 2022 وكان الانطباع الذي تركه الشريط (الذي تعرض لعملية قص ولصق) أن تنبؤات ذلك العالم بالغيب قد تحققت بالفعل، وقلة قليلة ربما لاحظت أن التنبؤات التي قيل إنها تحققت هي من النوع العام الذي يمكن أن يفترضه أي متابع للأحداث السياسية، فيما أغفلت عملية (المونتاج) على الشريط وقائع محددة كان تنبأ بها (العالم الفلكي) ومضى عام 2022 بكامله دون أن يتحقق شيء منها، وقد حرصت المحطة الفضائية على تجاهلها لأنها تكشف زيف ما تدعيه من صدق توقعات عرّافها، ويمكن العودة إلى الانترنت للتأكد منها، ومع أن ثقافتنا ترفض المنجمين (ولو صدقوا) فإن الأمر قد تجاوز عند كثيرين مرحلة التسلية والفضول، حتى إن بعض العاملين في مجال التبصير استشهد باعتماد رئيس أوروبي على عرافة في كل قراراته مما دعا محدثه للقول لهذا وصل إلى ما وصل إليه، قاصداً إلى الفشل الذي لاحق ذلك الرئيس وأدى إلى خروجه من عالم السياسة، وكم يبدو الفرق شاسعاً بين رئيس أوروبي في القرن الحادي والعشرين يتخذ قراراته بمشورة عرافة، وبين شاعر عربي كأبي تمام سخر قبل ألف عام من العرافين في رائعته الخالدة (فتح عمورية) التي انتصرت للعقل على الشعوذة.