الثورة – يحيى موسى الشهابي:
كنت قد كتبت مؤخراً حول الاحتراق الوظيفي، والذي هو عبارة عن إفراط الفرد في استخدام طاقاته ليستطيع تلبية متطلبات العمل الزائدة عن قدرته، مما يؤدي ذلك إلى فقدان تدريجي للطاقة والأهداف والمثالية لدى الأشخاص الذين يمارسون المهن القائمة على مساعدة الآخرين بسبب طبيعة عملهم.
اليوم أيضاً سنكون مع نوع آخر من التوتر المرتبط بالعمل والذي يؤدي إلى تراجع الإنتاجية وفقدان الهوية الشخصية بحيث لا يمكن للفحص الطبي وحده كشف تلك الظاهرة دون البحث عن عوامل متعددة، مثل الاكتئاب والعزلة الاجتماعية، ما يؤثر ذلك على الصحة البدنية والنفسية، وهذه الظاهرة يسميها البعض بالانهاك الوظيفي تارة او الاجهاد المهني وضغوط العمل تارة أخرى.
وفي هذا السياق يشير الدكتور محمد عماد سعدة استاذ علم النفس في كلية التربية جامعة دمشق، أن الاجهاد هو درجة مرتفعة ومستمرة من الضغوط المزعجة جداً وهذا المصطلح شائع الاستخدام منذ بداية السبعينات بوصفها الحالة النفسية للعاملين الذين يقضون وقتاً طويلاً في العمل المجهد مع الآخرين.
اما بالتعريف فهي الظروف التي من خلالها تتفاعل مجموعة من العوامل المرتبطة مع الخصائص الشخصية للعامل بالصورة التي تؤدي إلى الخلل في توازنه النفسي أو الفيزيولوجي او كلاهما معاً.
إذ إن العوامل المرتبطة تسمى مصادر الضغوط، وعدم التوازن يسمى بالتوتر المرتبط بالعمل.. ويعد الباحث السويدي جاردل من أوائل الذين اهتموا (بدراسة العلاقة بين بيئة العمل والإجهاد في العمل على انها وضع خارج عن إرادة العامل) ذلك في العام ١٩٧٦، إذ ان بيئات العمل التي تسهم بالشعور بالعجز والعزلة تعد من البيئات المسببة للضغط بالنسبة لمعظم العاملين.
أهمية الدراسة
يشير د.سعدة إلى أن أهمية دراسة تلك الظاهرة ترجع لارتباطها بالخسائر الاقتصادية والنفسية والاجتماعية التي تتحملها مؤسسات العمل بسبب الآثار السيئة والمتعددة للاجهاد في العمل.
*أعراضها ومصادرها
يبين د. سعدة ان أعراض الإجهاد في العمل متعددة وأهمها الأعراض النفسية والعضوية والعدوانية والتخريب، ناهيك عن السلوكية، بينما تنقسم مصادرها إلى فئتين فردية وتنظيمية:
فالأولى تتحكم بها عدة أمور مثل المتطلبات الشخصية وإحداث الحياة الضاغطة ومراكز التحكم “السلوكية والمعرفية والمعلوماتية والبناء على الأحداث الماضية” وكذلك الظروف الاجتماعية والصراع مع “الزملاء المديرين، القلق، الإحباط، العلاقات مع الآخرين”.
اما الثانية اي المصادر التنظيمية فتتمثل عبر عدة محاور مثل متطلبات العمل وفلسفة وقيم وطبيعة العمل في المؤسسة والمكانة الوظيفية وعبء العمل وكذلك سوء العلاقات بالعمل وتعارض حاجات العامل مع متطلبات المؤسسة وزملائه وقيم وأهداف العامل مع قيم وأهداف المؤسسة.
التأثير على الإنتاجية
ويؤكد د. سعدة ان للظاهرة تأثيرا سلبيا على أداء العامل وإنتاجه، حيث تؤدي في حال زيادتها إلى انخفاض معدلات الانتاجية والأداء الوظيفي وزيادة حالات الغياب والاستقالة.. لذلك فإن العلاقة بين الإجهاد في العمل والمتغيرات المتصلة بالأداء الوظيفي والانتاجية علاقة معقده “منحنية” وليست خطية تأخذ الشكل المنحني، أي تزداد معدلات الإنتاجية ويرتفع الأداء مع زيادة الضغوط إلى مستوى معين وإذا استمرت الضغوط بعده بالازدياد ستنخفض الإنتاجية والأداء.
*مواجهة الانهاك
وعن الاستراتيجيات الممكنة لمواجهة الإجهاد الوظيفي أشار د. سعدة: ان القضاء عليه غير ممكن وغير منطقي، بل هناك أساليب للمواجهة تهدف لضبطه والتحكم به والسيطرة عليه وتقليل آثاره إلى الحد الممكن وتتمثل باستراتيجية فردية مثل إدارة الوقت والذات والتمارين الرياضية والتغذية وتعديل أسلوب الحياة والاعتماد على الدعابة والمرح وإيقاف الأفكار السلبية إضافة لحل المشكلات قدر الإمكان.
والاستراتيجية الأخرى أي التنظيمية تتمحور حول تحسين التدريب وبرامجه وتحسين المواءمة المهنية والتطبيق الجيد لمبادئ الإدارة وتنظيم العمل مع تحسين المهارات المهنية بالتوجيه والتدريب والانتقاء السليم للعمال مع وضع نظام جيد للحوافز والاتصال. إلى جانب إعادة ترتيب بيئة العمل المادية والمشاركة في صنع القرارات وتدريب القادة والمدربين والمشرفين.
أخيراً: لا بد من الإشارة إلى أن ما تحدث به الدكتور سعدة مهم جداً وما على العامل أياً كان موقعه ومسؤوليته من معرفة الكيفية التي سيواجهها فيما لو وصل لتلك الحالة والحفاظ على صحته النفسية والبدنية لما لها من تأثير على البيئة المحيطة به.