الملحق الثقافي- علم عبد اللطيف:
شهدت العقود القليلة الماضية في منطقتنا تحديداً..وربما في غيرها..تطوراً ملحوظاً في كتابة النصوص الأدبية.
مال البعض لتجنيس النصوص سعياً لمأسسةٍ قد تتم إبّان حراك متسارع.. شهدنا فيه مصطلح قصيدة الومضة.. والقصة القصيرة جداً..
هذان الشكلان تحديداً.. جرى التوسع في كتابتهما..باعتبارهما صارا جنساً أدبياً معترفاً به.. وله أدواته الخاصة به.
لكن المسألة كما نرى..لا تقف عند قوننة شكل معين..أو الركون الى أصالته بحكم التطوير والتحديث.. أنها تتعدى كل هذا لتخلق حالة من التداخل الشكلي أو المعياري.. بين الأجناس الأدبية حتى المستقرة منذ زمن..كالرواية والقصة القصيرة المعروفة.
تداخلٌ أنتجته محددات النصوص الحداثية..منذ سوزان برنار وكتابها عن قصيدة الحداثة.. أهم هذه المحددات هو الاختزال والتكثيف.. هذا العنصر الخطير الذي تم تبنيه من قبل مجلة شعر منذ ستين عاماً..لم يكن بالحسبان توقع نتائجه بعد انفلاش وسائل الكتابة ووسائطها.. إذ أفضى إلى إقصاء الأدبية من الشعر والقصة وصولا للرواية في بعض الاحيان.. وكان الرهان لدى رواد حداثة الشعر تحديداً..على استقرار وسائل الكتابة والنشر كما هي.
الآن..نشهد نصوصاً تراوح بين القصة والشعر والخاطرة..ولا يمكن تغليب شكل منها على آخر في تحديد جنس النص.. وكمداخلة اعتراضية..نقول إن طبيعة النشر والتوصيل حقيقة هي التي افضت إلى هذا الحال.. النشر في وسائط التواصل الاجتماعي.. هذه لا رقيب ولا حسيب عليها..الفضاء واسع ومفتوح.. لن نقول إن هذا شر مطلق..ففي الركام الكثيف المنتج تم بعض التطوير في النوع.. وفق قاعدة الكم والكيف جدلياً.. لكن…المسألة حقيقة لم تُحل ولم تجد طريقة لتلافي التداخل الذي قد يقضي على النوع الاجناسي بكل صراحة.. نتساءل الآن..أين الخاطرة. وأين القصة القصيرة..والقصيرة جداً.. ربما كان الجواب الحقيقي..أنها في كل هذا.. حسنا.. هل سيفضي ذلك إلى انعدام الأسم الاصلي؟.هذا جائز حقيقة.. لكن نتائجه بالفعل غير محسوبة.. إلام ستفضي..وهل سيجد أحد هذه الانواع استقلاله وتأصيله في خضم التواصل والتخالط المقصود أو غير المقصود..بمزج كل منهما بالآخر؟.. فالشعر يشكو من الخوطرة..وهذه تشكو من الشعرنة.. وكلاهما يشكو من القص الحكائي.
إذا انتقلنا إلى الرواية..نجد أن هذا الجنس الأدبي قد نجا من شرك الكتابة في الأنترنيت باعتبار النص الروائي طويلاً ولا يتوافق البتة مع طبيعة التصفح السريع في الانترنت..لكن الرواية في العالم.. والتي نحت إلى تطعيم ذاتها بأنواع أدبية وفكرية أخرى أسوة ببقية الكتابات ربما ..أو استجابة لنوازع التحديث والتطوير التي يفرضها السوق الإعلامي إذا جاز هذا التعبير.. فصارت الرواية حمولة فوق حمولات.. انضاف اليها الشعر والفكر والفلسفة والتاريخ.. وحتى عناصر التحديث الفني المدرسي.. من سيميائية أو تجريدية أو سريالية..منذ جان جينيه..وصولاً إلى ماركيز وكونديرا وغيرهما.
يبدو لنا..أن الرواية حقيقة تفقد الآن استقلالها كنص أدبي مستقر.. عرفناه في الأعمال الروائية الكلاسيكية العظيمة في الغرب والشرق.. وتدور الآن بين القص والمسرحة والفكرنة والتسيس.. ولا يجدي القول إننا بصدد إنتاج نص عام..فحتى هذا المصطلح..يحمل غموضه في بنيته..تماماً كمصطلح الومضة مع مابينهما من فرق.. عام يبيح نسف قواعد مستقرة.. وحقيقة ليست المشكلة في نسف القواعد..أدبياً أو غير ذلك.. بل في عدم انتهاج المنهجية..هذه مسألة دقيقة ومهمة.. إذ بفعل منهجية عقلنة النصوص.. تم التفريق بين القصة القصيرة والرواية.. وكانت حتى عهد هوغو وفلوبير.. قصةً بالاسم.. لكن تشايكوف وموباسان وجيمس جويس.. ممثلين مرحلة عقلنة النص الادبي.. دشنوا ولادة القصة القصيرة التي أعلنت اكتفاءها بزمن محدد. ومكان أكثر تحديداً.. محررة نفسها من زمن الرواية الطويل وأمكنتها المختلفة والمتباعدة.
أخيرًا يمكن القول..إننا فعلاً بصدد فقدان الهوية في النصوص الأدبية.. تماماً كفقدان الهوية في الانتماء التاريخي والجغرافي والايديولوجي.. بعد فقدان العالم توازنه بفعل سباق المصالح الرأسمالية.. التي أخضعت الأدب والفكر لمقتضياتها.
العدد 1127 – 10-1-2023