(اللامعقول) تسمية أطلقها كتّاب المسرح، والرواية على ذلك الأدب الذي تُبنى عليه فلسفة العبث، والتمرد على الواقع المعيش لإنقاذ الفرد من مأزقه المادي الذي أوقعه في حربين عالميتين ساخنتين.. وما تعرّض له من مشكلات ما بعد الحروب خارج إطار الزمان والمكان، وقد عالجها كتّاب المسرح في أعمالهم الدرامية.
إلا أن خشبة ذلك المسرح انتقلت إلى ساحة الحياة باتساع أبعادها، وعناصره تحولت إلى ما أصبحت تمدنا به التقنيات الحديثة.. وبعد أن تفجر العالم بأشكال متعددة للحروب من باردة، وساخنة، ومباشرة، وغير مباشرة، اشتعلت معها ثورة التكنولوجيا، ما جعل من الحياة المعاصرة ذاتها مسرحاً للامعقول.. والمعقول في أصله هو أن تسير حياتنا كما النهر ينساب في مجراه، لكن حياتنا باتت لا تنساب في مجراها كما يجب عليها أن تفعل.. فتفاصيل الحياة في وقتنا هذا تعقدت إلى درجة أصبح المرء معها يحنّ إلى تلك الأيام التي كانت فيها البساطة تغلف ساعاتها.
فكل ما حولنا بات من غير المعقول كذلك المسرح في تجربته غير المألوفة التي تسبر أعماق النفس البشرية في تحولاتها وهي تقع بين تناقضات التصالح والعداء، والحرب والسلام.. إذ كيف سيكون لنا أن نعيش في عقود قادمة في عالم كل ما فيه يخضع للميكنة، والآلة الذكية تسلب منا حتى وظائفنا، وتنافسنا في أعمالنا التي تعودنا أن ننجزها ببراعة ممارستنا لها على الدوام لتقوم هي بها عوضاً عنا، وبكفاءة أعلى مما يمكن لنا أن ننجز بها تلك الوظائف، والأعمال؟
تقنيات لم تكتفِ بالمنافسة فقط بل إنها تخطت كثيراً من الحواجز لتصبح العين التي ترى، والأيدي التي تُستخدم، والأرجل التي تسير.. وها هي تعدنا بأن تصبح أكثر التصاقاً بأجسادنا.. فلماذا إذاً نربك أنفسنا باستخدام الأحرف، والأرقام ككلمات مرور إلى أجهزتنا الذكية، ومثلها بصمة اليد، أو بصمة العين مادام قد أصبح بالإمكان الاستعاضة عنها بنبضات القلوب؟.. أجل النبضات لتغدو هي كلمة السر القادرة على أن تشغّل الهاتف الذكي، والحاسوب، ومحرك السيارة، وأجهزة الحماية الإلكترونية للتأمين من السرقة، كما الدخول تحت حمايتها إلى الحساب المصرفي، والأمر لا يتعدى ارتداء سوار ذكي يتعرف إلى نبض القلب فيحوله إلى كلمة مرور تيسّر الأمور.
لكن أبواباً أخرى ولو مغلقة كانت تفتحها نبضات القلوب تلك التي تشع بالعاطفة والمحبة بين الناس، إلا أنها ستصبح في المستقبل القريب مُعبأة في قطعة معدنية تُستخدم في تشغيل أجهزة يُستغنى بها عن هؤلاء الناس الذين يلتقيهم المرء في دائرة حياته الخاصة منها، والعامة.
تطور تكنولوجي سيدخل عاجلاً أم آجلاً إلى كل ما حولنا دونما استثناء ليصبح الحاكم بأمره، فمن دونه لا تعمل الآلات، ولا تدور عجلة الحياة.. ولكن ماذا لو توقف القلب عن النبض فهل ستتوقف كلمات السر، أو المرور عن القيام بمهمتها؟
والبشرية إذا ما تمردت في يوم على تقنيات الرقمية فهل سيكون مصيرها غير معروف كتلك المسرحيات فوق خشبة اللامعقول التي لا تمكنك من التنبؤ بخطواتها، أو بمسار أحداثها؟.. وإذا كانت مدرسة أدب اللامعقول قد ظهرت رداً على المادية التي أوصلت إلى حالة من الفراغ الروحي فماذا ستفرز العقود القادمة من مدارس فنية، وأدبية تحسن التعامل مع واقع جديد أغلب مفرداته جاءت من عوالم لم تكن قابلة للتصديق، أو للتوقع؟
لكن عجلة التطور والحضارة لا تتوقف وستظل في دورانها المتسارع.. إلا أن الأهم هو ألا تصبح حياتنا برمتها خارجة عن المألوف في لهاثنا المتواصل وراء كل ما هو مبتكر، وجديد مما يجعل من حياتنا مسرحاً حقيقياً للامعقول.