تلك الطفلة الجميلة قريبتي الصغيرة التي لم تبلغ عامها الثالث بعد؛ أذهلتني بذكاء متفتح ساهمت فيه تلك الوسائل المعاصرة من برامج، وتطبيقات مخصصة للصغار في عمر الطفولة المبكرة، وهي تحسن أو بالأحرى تتقن التعامل مع برنامج يتحرك داخله شبحها الذي اختارته في أرجاء منزل تتنقل بين غرفه، وتقوم بكل خدماته من طبخ في مطبخه، وغسيل في حمامه، وترتيب للسرير في غرف النوم، وعناية بالحديقة، وتنسيق لأزهارها، ورعاية للحيوان الأليف الذي يشارك الأسرة مسكنها.
كل هذا وأكثر في ألعاب مبتكرة للطفولة المبكرة هي ليست للتسلية، والمرح فقط، والإلهاء تزجية للوقت، بل إنها مصممة من أجل تنمية الذكاء، وتفتح وعي الطفل وإدراكه منذ سنواته الأولى، فكما هي تلك الطفلة، وغيرها من الأطفال في مثل سنها يعرفون كيف يمسكون بجهاز الهاتف الذكي، ويدركون أن عليهم الضغط على أزراره حتى تظهر لهم على شاشته ما يحبونه من صور فهم أيضاً يعرفون كيف يحركون أصابعهم الصغيرة فوقه ليخوضوا في تلك الألعاب شأنهم شأن الكبار.
ألعاب جديدة باتت هي الأفضل كوسيلة تعليمية لأنها تُكسب مهارات لا توفرها الألعاب التقليدية، وانطلاقاً من هنا نستطيع أن نتخيل كيف سيكون شكل المستقبل وهذه الوسائل الحديثة تفعل فعلها في تحفيز العقول، والملكات الإبداعية عند الأطفال منذ مراحلهم العمرية الأولى، وصولاً إلى ما بعدها، وهي تدعم التعليم الذي يتلقنه الطفل في المدارس أيضاً في مراحله المختلفة وصولاً إلى المرحلة الثانوية.
وحتى لو اتخدنا موقفاً سلبياً من هجمة الألعاب الإلكترونية على عقول صغارنا، وبتنا نخاف أن تستلبهم وهي تصنع لهم عوالم من الوهم يعيشون فيها فإننا في الوقت ذاته لا نستطيع أن نتجاهل مفعولها الإيجابي القوي في تنمية الإدراك مقروناً بالحركة كإدراك حسي، إلى جانب المرونة التي يكتسبها الطفل من خلالها، إلا أن ملمحاً نكاد نلحظه عند الأجيال التي تنشأ على غير النمط التقليدي وهو أنهم يشتركون في ميول واحدة هي الارتباط الوثيق مع التكنولوجيا المعاصرة، وتقبّل مستجداتها باستمرار، وبالتالي فهم يحسنون التعامل معها.. وهذا يدفعني للتساؤل: ألن يعمل هؤلاء لاحقاً على صياغة مستقبل جديد لعالم مختلف وفق نموذج خاص تنتفي فيه ملامح ماضٍ غير بعيد سبقه مادام أطفال اليوم ينمون في بيئة مختلفة تماماً عن بيئة الآباء، والأجداد تساعدهم على نضج عقلي، ووجداني، واجتماعي مبكر، ومتفتح؟
إن المهارات الجديدة التي أصبح أطفال اليوم يكتسبونها إنما تفعل فعلها في تعزيز التجربة الحياتية، وتحفيز الرغبة في الاكتشاف، والمعرفة في رحلة من التطور، والاطلاع لا تتوقف عجلتها. والألعاب الجديدة تحقق نتائج ربما هي أكثر تأثيراً، وأسرع تنمية من التعليم المدرسي، إذ إنها ليست مجرد ألعاب وإنما هي وسائل تساعد في تكوين الشخصية، وإطلاق الملكات الإبداعية، وتنمية الذكاء، بل إنها وسيلة تعليمية فعّالة قائمة بذاتها.
وهذا يضعنا بدوره في مواجهة ماذا علينا أن نختار منها، وأجواؤها تتنوع بين السليم، والرديء، بين الحرب، والسلام، وبين الأصالة، والاغتراب، كما الهزيمة، والنصر.. ومعادلتها هي كما المعادلة بين الخير، والشر. والخيال الذي تثيره هذه الألعاب، وما يتبعه من الابتكار المستقبلي الذي ينمو من جرائها هو منسجم معها بطريقة ما، بل مع أهدافها التي صممت لأجلها، وهذا هو الأهم.. وهنا إنما تكمن اللعبة الأكثر أهمية ليس بالنسبة للصغار، وإنما بالنسبة للكبار في: التدقيق، والفرز، والاختيار، لأن مثل هذه الألعاب هي التي ستشكل لاحقاً شخصية الأبناء، وستقوم بالبناء لما هو قادم من الأيام.
ألعاب للمرح، وللتسلية، وغيرها لتنمية الذكاء، والإدراك، وغيرها لتذوق الجمال، لكن بالمقابل فمنها ما هو لتغذية العنف، والانحراف، والأنانية، والتمركز حول الذات، وبما يخلق معايير مختلفة من القيم، وأخرى متباينة للسلوك الاجتماعي، والأخلاقي ضمن المجتمعات.. وتكفي ثلاث سنوات أولى ليصاغ العالم وفقها من جديد.