تكاد كلمة الإيديولوجيا ترتبط في الأذهان على أنها نسق تفكير يرتبط بالمصالح السياسية، والاقتصادية فقط، بينما هي منطق خاص يخترق الأفكار، ويمد أذرعه في شتى الاتجاهات من اجتماعية، ودينية، وعقائدية، وقيمية، وغيرها، وإيديولوجيا الإنسان الخارق أو (سوبرمان) التي اعتنقها الغرب، وكانت الأكثر تأثيراً على الثقافة الأمريكية في القرن العشرين، جعلت من بطله الأسطوري مثالاً للقوة، والشجاعة، وانتصار الخير على الشر، وهو يسخّر قدراته الخارقة لصالح البيئة التي نبت فيها، وبالتالي فقد خلق هذا البطل الوهمي إيديولوجيا خاصة يقف وراءها ليصبح رمزاً لمجتمعاتٍ بأسرها. وهذه القدرات الاستثنائية التي يمتلكها (السوبرمان) تنتعش، وتنمو مع كل قفزة تكنولوجية جديدة ولاسيما إذا كانت تلك التقنيات قادرة على أن تخترق عوالم البشر بقوة نظراً لما تقدمه لهم من خدمات يومية أساسية سواء على مستوى الحياة العامة، أو الأخرى الشخصية.. وهنا تكمن المشكلة في تحكّم مَنْ يصنع التكنولوجيا المتطورة، وقد تشبّع بتلك الإيديولوجيا، أقول تحكمه بعقول مَنْ يستورد هذه التكنولوجيا ليستخدمها وهو مستسلم لقيادتها.
ها هي إذن تلك التقنيات الحديثة المفعمة بروح الرجل الغربي الخارق تخترق حياة المجتمعات الأخرى، وتحتل مركزاً رئيساً فيها مادام الجميع يعيش تحت سطوة الرقمية بأبعادها الموازية التي تسود جهات الأرض الأربع إذ إنها تعمل على تسهيل سبل العيش، وتخدم بما لم يكن متوفراً قبل ظهورها حتى غدت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية لكل فرد مهما تضاءلت إمكاناته المادية، أو الثقافية، أو العلمية المعرفية، إضافة إلى مكانتها المرموقة في اقتصاديات العالم، والتجارة الدولية، وتحت سطوتها، وتأثيرها المغناطيسي الذي يجذب إليها كل أحد بدوافع مختلفة، يتنازل الناس عن التفكير النقدي الذي يوصل إلى استخلاص التناقضات السافرة بين الهدف الأسمى للرقمية، وما تحققه إيديولوجيا الرجل الخارق من استلاب للشعوب بما تبثه من قيم، وأفكار، ليست بالضرورة هي الأفضل، والأمثل.
فهذه التقنيات الحديثة، والأكثر حداثة منها بالأخص، تؤمِّن المعرفة بكل فروعها، وبغزارة توفر مصادرها على شبكة المعلومات، وبحيث يستغني معها المرء عن الاستكشاف المعرفي الذاتي في البحث، والاستقصاء، والجهد المبذول بين مراجع المعارف، وأروقة المكتبات، والذي يحقق له اكتساب المعرفة الحقيقية باعتبار أن اكتسابها يعني نهج حياة، وليس أمراً آنياً ينتهي بمجرد الوصول إلى هدف ما.
إلا أن الرقمية التي يقودها الذكاء الصناعي هي من الذكاء بحيث توجه مستخدمها نحو مصادر بعينها تريد له الوصول إليها، دون أخرى تبعدها عنه، أو تنفيها لأنها لا تتوافق ومصالحها، كما غاياتها، وأهدافها البعيدة، فغياب الشيء يكاد يكون عدماً له.. ليصبح للتفكير بالتالي اتجاهاً واحداً يسير فيه بعيداً عن التنوع القائم فعلاً على أرض الواقع ذلك لأن الرقمية هي حياة مختزلة في صفحات إلكترونية، وليست الحقيقية كاملة.
إن إيديولوجيا الرجل الخارق التي سادت في السينما، وهي الأكثر تأثيراً، وفي الأعمال الأدبية أيضاً، تعتبر أن كل فرد هو كيان مستقل بذاته له القدرة على أن يحقق إنجازات كبرى مادامت لديه الإمكانية لذلك، كما لديه الإصرار على التحدي، والعمل، والعقل البشري قادر على الإبداع، والتطور باستمرار.. إلا أن البطل الخارق المتمثل بإنجازات الرقمية قد احتكر هذه الإيديولوجيا لنفسه ليكون هو الفرد الأوحد الذي بمقدوره تحقيق الخوارق، والمعجزات.
إيديولوجيا رقمية تتحكم في توجيه الآراء نحو قضايا كبرى بما يتوافق معها، ولا يخالفها ليدخل الناس جميعاً في ثنائية التناقضات بين المعلن، والمخفي من الأهداف، كمن يترجم المعنى وهو لا يدرك مفهومه، ولتصبح هي الحاكمة المطلقة في المجتمعات.
* * *