الملحق الثقافي – غسان كامل ونوس:
كنت أتحاشى، حين أطلّ على الحارة، أن أعبر من المَفرِق؛ كيلا أتذكّر!
لم أكن نادمة، أقول دائماً: إن عادت الحالة ذاتها، فسأختار ما اخترت، ولن أقول: قدّر الله وما شاء فعل؛ كيلا أتنصّل من مسؤوليّتي!
لم يكن يحدث هذا كثيراً؛ فقد أخذتني الدنيا سمتاً آخر بعيداً.. ولم يبرح ذاك المَفرِق مخيّلتي، على الرغم من أنّ المدينة، التي أسكن منذ سنين، تُضيع معنى المَفارِق بالإشارات الضوئيّة الملوّنة، والأسلاك العابرة، بالآليّات تحتها، والخطوط البيض والصفر المتّصلة والمتقطّعة، بالمعابر الشخصيّة والإنسانيّة.. لكنّ المَفرِق ذاك بفوضويّته وانهمام العابرين والعابرات وأشكالهم الأليفة، يبقى له طعم مختلف!!
خلت أنّ كلّ شيء انتهى، بعدما انتفضتُ في وجهك المقامر، وجفلت من اندفاعتك المباغتة، ولم يكن المساء قد استحكم.. لكنّ الحارة التي نحن فيها، الحارة التي تُلحق بالمدينة اسميّاً، كاللقيط، وتنتمي رسميّاً وفعليّاً إلى مسمّى العشوائيّات، تلك التي نمت في غفلة أو إهمال أو لا مبالاة، لا تسمح، بفوضاها المستبدّة، لفتاة مثلي، أن تقف مع شخص تكرّر وقوفه، حتّى لم يعد للمصادفة معنى.. حتّى لو لم يكن غريباً، بعد السلام البعيد، والتحيّة العابرة، والنظرة السديدة..
كنتَ مندفعاً.. أعرف حماستك من حكايا الحيّ، وشهامتك من حديث الجيران؛ لكنّني في المدرسة، وأنت خارجها؛ بصرف النظر عن الأسباب، وأمامي مستقبل، وأنت من دونه!
*
لا يمكن أن تتركي المدرسة من أجله.. «وللحقّ أنا لم أكن أقبل».. وستتعبين لإقناعه أنّك لا تنظرين إليه بفوقيّة، وسيتعب لإرضاء تميّزك، وإقناعك بأنّه لا يقلّ عنك شأناً!!
تعب في تعب..
ليس عيباً أن تتوقّف القضيّة هنا، من بداية الطريق، بغصّة ستنوس، ولن تتركها الذكريات تتلاشى.. هذا أفضل من أن تنتهي بعد حين بمرارات وخيبات، أو بعد حين أبعد، بخصومة وشتات.
الشتات اخترتِه، أو اختارته لكِ الظروف.. ولم ترفضي؛ أيّ شتات هذا، وأنت ذاهبة مع من قبلتِ به من دون تردّد، إلى بلاد الأضواء والحرّيّات والألوان، وكلّ شيء متحكّم به كالقدر؟! «أستغفر الله من جديد؛ كيلا أحمّل الله وِزر ما يفعلون خارج هذا الضبط والعسف للوقت والعمل والسير والعلم، والانفلات في المشاعر والعلاقات والعواطف، والشاطر يدبّر رأسه..»
الشاطر يدبّر رأسه، عسكريّ دبّر رأسك.. ما زلتِ تذكرينها من درس الفتوّة.. كان المدرّب يقولها، فتضحك زميلتك: أنا عسكريّة ولست عسكريّاً! فيقول غاضباً: الزمن لا يرحم أحداً؛ لا يعرف جنساً، ولا يفرّق بين متعلّم أو جاهل.. والعسكريّة كذلك، يحتاج إليها الذكر والأنثى، سيأتي يوم تتذكّرون!
وكانت ملامح الخوف بين عينيه، والجدّيّة التي يدرّب بها تشعركِ بالقلق.. لكن كنتم تقولون مبالغة: لا عسكريّة ولا من يحزنون؛ هذا جارنا وجاره، وذلك قريبنا، ونعرفه…
*
حتّى هناك في البلاد البعيدة، على كلّ كائن أن يدبّر رأسه؛ فلا أحد يرأف بك، إن أخفقت، ولا أحد ينتظر ليقيمك من نفسه.. الناس ليس لديهم وقت لمثل هذا.. هناك من هو مكلّف به، جهات وإمكانيّات؛ صحيح.. لكن ذلك يتمّ بآليّة وبرودة موجعة، على الرغم من الابتسامة والسرعة والأجهزة والأصوات..
*
لماذا لم تدبّر رأسك كسواك؟! كما بتّ أسمع إلى هناك؟!
لم تكن لتفعل؛ أعرف ذلك؛ بل ستأخذ مكان من دبّر رأسه، وتتحمّل عبئه، وتدافع عن المكان، الذي تخلّى عنه، والحارة التي شغرت من حُماتها، والمفارق التي هجرها الناطرون..
كنت ستقول لي، ربّما: وها أنتِ دبّرتِ رأسك!
صحيح، في المعنى العام، في النظرة العامّة نعم؛ دكتور، ومستشفى، وإنجازات، لا يسمع بها أحد هناك في الحارة، وأنا وحيدة باردة، أنتظر أن يذهب أولادي؛ لأذهب إلى المؤسّسة، التي أعمل فيها، يعودون وأعود، ونلتقي قليلاً أوّل المساء، قبل النوم!
لم أسأل عنك كثيراً.. كنت أسأل عن الأحوال العامّة، حال البلد، والمدينة.. يقولون كلّ حين يطلع الرصاص القريب؛ البعيد الأعنف والأكثف، اعتدناه بأصواته وإيقاعاته المتعدّدة.
كلّ حين، يخرج صراخ من جهة، شهيد جديد، وتشييع جديد، كانوا يقولون هذا: أقرباء ذهبوا، ومعارف غابوا، والناس في ويل وثبور.
قرّرت أن أعود؛ لأرى بعيني، وأستشعر ما يحدث كما هم الناس في بلدي؛ زوجي خشي من حجم التضخيم والمبالغة في الوقائع.. أعرف أنّها ليست بسيطة، لكنّها ليست كما يصوّرون.. خاف على الولدين؛ معه حقّ، ومعي حقّ، أردت أن يذوقا الطعم طازجاً، وإن كان مرّاً.. لكنّه نجح في إقناعي، أو اقتنعت خوفاً عليهما أيضاً..
هذا الصيف، نفّذت قراري، بعد خمس عجاف هناك، أيضاً؛ لأنّ في هذه الموقعة، ما من هناك وهنا وهنالك؛ فـ»الكلّ في الهمّ شرق»!!
في هذا الصيف، عدت.. هل أقول: ليتني لم أعد، أو لم أمرّ على ذاك المفرق!
لماذا عرّج السائق إليه؟! هل الطرق الأخرى مقطوعة؟! أم سمع دقّاتِ قلبي؟! لم أجدْ من المناسب أن أحدّد له المسار؛ أنا القادمة من بعيد، وهو ابن البلد، أو من ارتضى أن يبقى في البلد؛ ليعيش، يسترزق، يضحّي! هل تمنّيت أن يمرّ من هنا؟! في المفرق، الذي يغصّ بالأسلاك، التي تأتي، وتذهب، بأعمدة ومن دونها، في الجهات كلّها، وعلى الجدران أيضاً..
ها إنّها تكاد تختفي اليوم بالصور الملوّنة بالزيّ العسكريّ، والبارودة المشرعة، وإزارات الرصاص، بالعلَم، والكوفيّة، والخوذة أو القبّعة، أو من دونها…
ليته لم يمرّ! وليتني لم أرَ.. صرختُ؛ كنتَ على المفرق؛ لم أخفْ من وجهك المقامر، وملامحك المغامِرة…
خبّأت وجهي عن السائق، وعنّي؛ لن تقترب، لن تهتمّ…
ستبقى على المَفرِق؛ أمّا أنا.. أغادر من غير رجعة، أم أبقى وفاء وزلفى؟!
العدد 1137 – 21/3/2023