في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي لابد للبعثيين والتيار القومي العربي الذي جسده البعث فكرا ونهجاً من إحياء مناسبة كهذه بنظرة نقدية للمسار الذي امتد لعدة عقود، واجه خلالها تحديات غير مسبوقة على صعيد الحزب ذاته وعلى صعيد مسيرته في قيادة المجتمع والدولة في سورية. وتجدر الإشارة هنا الى أن البعث هو من الأحزاب المعدودة ذات النهج الاشتراكي التي استمرت في السلطة وحافظت على هويتها الفكرية ومسارها وإنجازاتها دون أن تعصف بها رياح التغيير التي اجتاحت المنظومة الاشتراكية قبل ثلاثة عقود، والسبب أو لنقل الأسباب التي تفسر ذلك هي ما توفر له من قيادات حافظت على ثوابته السياسية وروح الثورة وعلاقته الوطيدة مع الجماهير، إضافة الى انفتاحه على القوى السياسية وتطور نظريته الفكرية ومشروعه الداخلي عبر إضافات هامة تجسدت فيما طرحه الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد قيام الحركة التصحيحية من تعددية سياسية واقتصادية وتجديد للحوض السياسي ومقاربته لفكرتي الوحدة والاشتراكية مقاربة عملية في خطابه بالمؤتمر القومي الثاني عشر عام 1975التي أخرجت نظرية الحزب من التكلس والتشرنق حول صيغة جامدة تمسكت بها قيادات الحزب منذ عام 1963 حتى ذلك التاريخ، ما أفقدها المرونة المطلوبة في التعامل مع واقع متغير يحتاج الى براغماتية في التعامل مع حيثياته وموجباته.. والى جانب خطاب التصحيح الذي أخرج الحزب من دائرة التقوقع حول الذات الى الانفتاح على الواقع كانت النقلة النوعية في إطار مسيرة الحزب نحو تجديد وتطوير نظريته النضالية، كان خطاب التطوير والتحديث الذي تبناه الرفيق بشار الأسد وطرحه في المؤتمر القطري التاسع للحزب عام 2000 وجاء عليه أيضاً في خطاب القسم أمام مجلس الشعب في نفس العام وهو الخطاب الذي حظي بتأييد وترحيب واسع من البعثيين أنفسهم، إضافة للقوى السياسية الصاعدة والمجتمع المدني السوري الذي قرأ فيه انفتاحا سياسيا وتعميقا للمسار الديمقراطي وبداية اقتصادية تتيح مشاركة أوسع في الحياة السياسية والاقتصادية لسورية متجددة بفعل ذاتي يقوده البعث عبر عنوان عريض وواعد تحت مسمى التطوير والتحديث، وكان لذلك النهج آثار إيجابية على كافة مستويات الحياة في سورية سواء الاقتصادية او السياسية والمعيشية او المسار الديمقراطي وسقف الحريات الآخذ في التصاعد والتوسع، حيث أتيحت مساحات اوسع في مجال الإعلام وتشكيل الأحزاب والصالونات الأدبية التي بدأت تعج بها المدن والحواضر السورية، ما أكسب الرئيس بشار الأسد شرعية إضافية هي شرعية الإنجاز المستند الى مشروع وطني واعد وليس مشروعا ًحزبياً ضيقا.
لقد شهدت سورية خلال السنوات العشر الأولى من قيادة الرئيس بشار الأسد تطورا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وديمقراطيا واسعاً، وهذا ما تؤكده مؤشرات رقمية حيث الناتج المحلي جاوز ال 60 مليار دولار عام 2010 بفعل ذلك النهج التطويري الذي تفاعلت معه القوى السياسية، وفي مقدمتها حزب البعث وقوى المجتمع المدني تفاعلا جيداً، يستثنى من ذلك بعض المتضررين من هذا النهج سواء كانوا في السلطة او بعض القوى التي لا تريد للبعث أن يقود عملية إصلاح شامل بفعل ذاتي دون تخليه عن ثوابته، إضافة الى من قرأ وهو مصاب بعمى الألوان ما جرى قراءة خاطئة، فبدأ بالتصويب على مسيرة الحزب وإنجازاته خلال عقود مضت اعتقاداً منه ان ما حصل هو حالة فك ارتباط مع ماضي الحزب وإنجازاته وتاريخه ومشروعه الوطني والقومي.
وعلى الرغم مما واجهه مسار التطوير والتحديث من معوقات داخلية وخارجية إلا انه استمر بوتيرة عالية وترافق مع انفتاح على دول العالم، آخذاً في الاعتبار أن سورية المتجددة بفعل تلك السياسة لم تتخل عن ثوابتها وهويتها العروبية والمقاومة، الأمر الذي لم يرق لبعض القوى الخارجية فبدأت باتباع سياسة العصا والجزرة، ما يعكس أميتها في فهم سياسة الرئيس الشاب الذي لم يتخل او يساوم على الإرث النضالي لمن سبق، وهو في أدبيات السوريين وعقيدته ووجدانهم الجمعي.. من هنا بدأت المؤامرات تحاك مرة أخرى على سورية سواء في لبنان عبر اغتيال الرئيس المرحوم رفيق الحريري او عبر بوابات الضغط الأميركية الاسرائيلية ولكن دونما جدوى، فجاء ما سمي الربيع العربي لتكون الجائزة الكبرى لمن اشتغل وراهن عليه سقوط (النظام ) في دمشق وفق فهمهم وقاموسهم السياسي، ولكن دمشق التي تعرفهم جيدا أسقطت كل حساباتهم ومشاريعهم المخادعة والمضللة، من الفوضى الخلاقة الى المشروع الإخواني التركي وتوابعهما الانفصالية، وحمت الأمن القومي العربي من زلزال مدمر يعترف به الجميع اليوم، ما دفعهم لمراجعة مواقفهم من دمشق وتصحيح العلاقة معها وهي التي أصبحت مكونا فاعلا في منظومة دولية صاعدة ترسم معالم نظام دولي جديد.
والسؤال الآن ما هو المطلوب على الصعيد الداخلي وعلى صعيد الحزب ذاته، والجواب على ذلك أن المطلوب هو الكثير سواء على صعيد القضاء على الإرهاب المسلح او الإرهاب الفكري.. وهنا يبرز دور البعث بوصفه حزباً في السلطة في مشروع توعوي شامل نواته منتسبيه ومؤسساته جنباً الى جنب مع القوى الأخرى في البلاد، إضافة الى تعريف دوره الاجتماعي ومهام منتسبيه، فلا بعثي بدون مهمة ولا بعث بدون إنجاز يلمسه الوطن والمواطن.. ونذكر البعثيين هنا أن ثمة مهام دائمة مؤقتة لمنتسبيه وفق نظامه الداخلي، ومن المهام المؤقتة وجود حالة احتلال او تحد خارجي ما يستدعي انخراط البعثيين وجماهير الحزب في المواجهة الشعبية والمسلحة بمواجهة ذلك، وهذه من المهام الأساسية التي تفرض نفسها على قيادته المركزية ومؤسساته ومنظماته الشعبية، ومن ثم المساهمة الحقيقية في إعادة الإعمار بكل أشكاله المادي والفكري والتوعوي. ولعل الظرف الحالي ومع حالة الاستقرار النسبي فإن ذلك يستدعي العودة الى تفعيل مضامين خطاب التطوير والتحديث التي تعطلت او توقفت بفعل الحرب الإرهابية التي شنت على سورية واستبسلت فيها قواتنا المسلحة وأبناء شعبنا، فثمة عناوين هامة تحتاج الى إعادة تفعيل، منها التحديات التي أشار اليها الرفيق الأمين العام بشار الأسد في خطاباته في المؤتمرين القطريين التاسع والعاشر، ونذكر منها تحدي العلاقة مع جيل الشباب وتحدي الإعلام وتحدي التنمية وتحدي الفساد ودور المرأة وتعريف الشخصية القيادية والحوار الوطني والفقر والبطالة وتحصين الذات، وكل ذلك يحتاج الى حوار عميق ونخبوي وبنك عقول وطني ينعقد ويلتئم ليضيىء على كل هذه العناوين وغيرها وصولا لوضع آليات عملية وأدوات فاعلة لتنفيذها وفق خريطة طريق تعيد الروح لخطاب التطوير والتحديث الذي مازال صالحاً من وجهة نظرنا، وصولا لسورية المتجددة التي يأملها كل وطني مخلص.