خميس بن عبيد القطيطي- كاتب من سلطنة عمان:
منذ إعلان البيان الثلاثي في بكين باتفاق الرياض وطهران على طي ملف مزمن تجاوز أربعة عقود وما زالت أصداء هذا الاتفاق تتردد بقوة كبيرة على مختلف الجبهات الحرجة في الجغرافيا العربية، ولا شك هي ملفات ثقيلة لحقبة حالكة في تاريخ العرب عانت منذ خمسة عقود تقريباً في ظل غياب التوافق العربي وتدخل قوى الخارج بشكل مباشر وتأزمت بشكل أكبر بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتوحشت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001م لتتفاقم مآسيها في الجغرافيا العربية خلال العقد الثاني من الألفية بعد الربيع العربي الذي أثقل كاهل الوطن العربي بمختلف أقطاره جراء هذا الهرج الذي اجتاح المنطقة.
كل ذلك كان العامل المؤثر فيه قوى دولية راغبة في السيطرة العالمية وفرض عهد جديد من الحقبة الاستعمارية عنوانه (الفوضى الخلاقة) القائم على أهداف خطيرة أبرزها خلخلة الدول العربية وتحويلها إلى دول فاشلة يحكمها أنظمة تابعة تأتمر بتوجيهات خارجية لتحقيق مشاريع شيطانية خبيثة في المنطقة يهيمن فيها الكيان الصهيوني لتحقيق مشروع “إسرائيل الكبرى” وقد استغلت ظروف المنطقة من تشرذم سياسي وانقسام أيديولوجي لتنفيذ أجندة سياسية خارجية تضعضعت فيها السيادة الوطنية وتفشت المشكلة الطائفية وتفرقت الدول والشعوب العربية فوجدت الأرضية الخصبة لزيادة التدخلات الخارجية بصورة استعمارية جديدة، لكن مع ذلك كانت قوى المقاومة في تصاعد مستمر، فكل تلك المشاريع والمشاريع المعدلة من الشرق الأوسط الجديد أو الكبير ومشروع الضم وغيرها من المشاريع المعدلة اصطدمت بالمقاومة التي أعاقت نجاحها وأفشلت مخططاتها الشيطانية.
الظالمون جاوزوا المدى فحق الجهاد وحق الفدا، ولأن ثمرة الصمود دائماً تأتي بالنتائج الإيجابية عززتها متغيرات كبرى على الصعيد الدولي في ظرف زمني دقيق أنعش الحالة العربية، هذه المتغيرات ألقت بظلالها على العالم بأسره وعلى الشرق الأوسط خاصة فتغيرت فيها إستراتيجية المواجهة بين الشرق والغرب بشكل توازت مع تصاعد قوى المقاومة والردع في وقت كانت فيه الأزمة الاقتصادية العالمية تنشب أظفارها في العالم برمته، أبرز تلك المتغيرات العالمية كانت الحرب الروسية في أوكرانيا التي أعلنت أن العالم يتجه لتشكيل واقع دولي جديد ومشهد عالمي شديد الوضوح بولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب بدأ يتشكل لإنهاء عصر القطبية الأحادية القائمة على الهيمنة الاستعمارية بأدواتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، هذا الواقع الجديد أوجد حقيقة واضحة مفادها من لم يكن طرفاً في هذا التغيير العالمي فقد يأتي في الوقت الضائع.
هذه البارقة التاريخية التقطت في عدد من الدول المحورية حول العالم من البرازيل إلى الهند وغيرها من الاقتصادات الصاعدة واستثمرتها أيضاً المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية في بناء إستراتيجياتها الوطنية واغتنمت لحظتها التاريخية لطي ملف أزمة إقليمية مزمنة لم تقتصر على حدود البلدين بل شملت ضفتي الخليج والجغرافيا العربية عموماً، وعندما لاحت هذه البارقة التاريخية تلقفتها طهران والرياض باتفاق تاريخي برعاية صينية قدمت نفسها في المنطقة من الباب الواسع متزامنة مع تنفيذ مبادرتها الاقتصادية الكبرى الحزام والطريق التي مدت شبكة خيوطها من الصين نحو العالم والمنطقة العربية خصوصاً حيث ارتبطت باتفاقيات اقتصادية كبرى عبر طريق الحرير لتشمل معظم دول الشرق الأوسط.
أدرك البلدان جيداً ما تعنيه عودة العلاقات البناءة بينهما وما يسقطه هذا الاتفاق من إضاءات على جبهات متعددة بالمنطقة واستثماراً لحجم البلدين وإمكانياتهما فقد بدأت بوادر هذه السانحة التاريخية تجدد بوارق الأمل بالمنطقة وكان يقيناً لدينا أن مثل هذا الاتفاق سوف يهيئ الأجواء نحو انفراجات في الحالة العربية عموماً فجاءت أبرز النتائج في اليمن الشقيق بعد معاناة إنسانية لسنوات، وهكذا عندما تتوفر الإرادة السياسية والظروف المواتية لتحقيق التوافق الداخلي والخارجي لتجاوز كل النقاط العالقة التي يجب ألا تعطل أو تؤخر هذا النجاح المتقدم ويجب معالجة الأوضاع الإنسانية بشكل عاجل وتوفير كل سبل العيش الكريم لأبناء اليمن والمساعدة في تهيئة البنية الأساسية فيه.
وعلى الجبهة السورية هناك نجاحات سابقة تحققت بفضل الصمود السوري وإدارة الأزمة ولا شك أن الفصل الأخير من الحرب على سورية يوشك على الانتهاء وهنا نترقب مشاركة سورية في القمة العربية القادمة بالرياض كما أن استئناف العلاقات بين دمشق والرياض يمهد للانطلاق مرحلة جديدة يأتي على رأسها إعادة إعمار سورية وعودة جميع اللاجئين إلى أرض الوطن، ولا شك أن من إضاءات الاتفاق بين الرياض وطهران أنها ستخيم بظلالها أيضاً على لبنان الذي يعاني من ظروف سياسية واقتصادية منذ مدة طويلة، ولا يمكن أن نغفل العراق الذي مر بظروف صعبة لذا يتطلب مساندته لمزيد من الاستقرار، ولا شك أن دعم القضية المحورية الفلسطينية هي أهم القضايا التي يجب مناصرتها لاستعادة الحقوق التاريخية الفلسطينية.
أصداء اتفاق بكين بين الرياض وطهران تدعونا لمزيد من التفاؤل في تحقيق معالجات كبرى في المنطقة وتعزيز العلاقات العربية مع جمهورية إيران الإسلامية، والاستفادة من المعطيات الاقتصادية الكبرى الجانحة على ضفتي الخليج، هذا الاتفاق التاريخي نأمل المحافظة عليه والعض عليه بالنواجذ لما فيه من خير في صالح المنطقة عموماً.
*المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة الوطن العمانية ورأي اليوم