حين تألقت الدولة العباسية، في كل مجالات العلوم والفنون والآداب، ظهر زرياب (789 – 857) منارة الموسيقا العربية، وحين انحدرت الأمة، برز الانحطاط، وخاصة في الموسيقا والغناء .. والإعلام لا يتحمل وحده المسؤولية، بقدر ما تقع على عاتق جمهور سطحي، يسهم في ترويجه وتكريسه تحت ذريعة أنه غناء شعبي، رغم معرفتنا المسبقة بأن الغناء الشعبي الأصيل تألق في عصره الذهبي، بجهود كبار نجوم الموسيقا والغناء، ولم يتكرس بمساهمة أميين، لايعرفون ألف باء الموسيقا والغناء، كما هو حاصل الآن.
واللافت في التحولات التي طرأت، أن المطربين السوريين الذين كانوا مشهورين في السبعينيات والثمانينات، أصبحوا الآن مغمورين بالنسبة للأجيال الجديدة، رغم وجود بعض الاستثناءات القليلة والنادرة، ولقد برزت مطربات أكاديميات على مسرح دار الأوبرا بدمشق، إلا أن شهرتهن بقيت محدودة، وهذا يعني أن العديد من الأسماء التي أثارت الانتباه والاهتمام الجماهيري في مراحل سابقة، قد خفت بريقها إلى حدود الانطفاء والأفول والنسيان.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأغاني والرقصات الشعبية التراثية التي تقدم بين الحين والآخر على الشاشات الوطنية، يمكننا القول: إن القدرة على تطوير هذه الإيقاعات أو إنعاشها ليس مستحيلاً، بل على العكس فهو متاح، وهي تخفف من وجع الإصابة بحدة المنغصات والأزمات والمآسي والأحزان والأهوال.
والخلل الكبير الذي أصاب الفن الغنائي الرائج فهو يعود إلى ارتباطه المشوه بالراهن الاستهلاكي والتجاري أو بالذوق الهابط، بعدما ألغى العصر الحديث وتقنياته الكمبيوترية، قدرة التعبير عن روح الأغنية الشعبية الحاملة صدق الحالة الداخلية التي يعيشها المطرب أو الملحن في أثناء إعادة صياغة أو أداء اللحن المحلي.
لسنا من المؤمنين بالآراء التي تقول بأن أزمة الأغنية الحالية مرتبطة بالنزاع القائم بين المؤثرات البصرية والصوتية في أغاني الفيديو كليب، لأن وجود الفتيات الاستعراضيات كان منتشراً بشكل كبير في الأفلام القديمة، ولم يؤثر ذلك في جمال الكلام واللحن والصوت، والدليل على ذلك أن تلك الأفلام الاستعراضية كانت تعرض لعدة أشهر متواصلة أحياناً، وفي كل المدن العربية، وفي مقدمتها أفلام فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وغيرهم.
قد تكون أزمة الأغنية السورية أزمة دعاية وإعلام، وإلا فكيف نفسر نجاح بعض مطربينا خارج سورية. وقد تكون أزمة إبداع، المسألة ليست محيرة كما يرى البعض، إنها ببساطة أزمة مبدعين، والمبدع لا يأتي إلى عالمنا أكثر من مرة واحدة كل مئة عام، وربما كل ألف عام وأكثر من ذلك. فالزمن الذي كانت تصاغ فيه الجمل اللحنية والغنائية الجديدة والأصيلة والخالدة قد يكون متوقفاً الآن، تماماً كما توقف عصر باخ وبتهوفن وموزارت وشوبرت وغيرهم. أتساءل دائماً هل نحن في مرحلة تاريخية فيها انقطاع في الإبداع، قد يكون هذا هو الاعتقاد السائد لدى الكثيرين.