الثورة – عبد الحميد غانم:
منذ قيامها عام 1945، عانت هيئة الأمم المتحدة الكثير من العقبات والصعوبات في مسيرة عملها لتحقيق الأهداف والمبادئ التي قامت من أجلها – بعد سقوط المنظمة الدولية التي سبقتها “عصبة الأمم”- نتيجة لفشلها بالقيام بالمهمة التي أسندت لها بعد اندلاع حرب عالمية ثانية.
لقد جسدت منظمة الأمم المتحدة، منذ إنشائها قبل قرابة الـ 80 عاماً، الواجهة الأساسية لمنظومة تعددية الأطراف، وساهمت بشكلٍ مباشر في تسوية النزاعات بالطرق السلمية وتصفية الاستعمار وحفظ السلام وبنائه وتعزيز جهود منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب، وأثرت آليات وأساليب عملها بشكل كبير على تنمية العلاقات الودية بين الدول الأعضاء فيها، لكنها تأثرت بالقدر نفسه بالتحديات المتصاعدة التي فرضها واقع العلاقات الدولية المتبدل.
ويتهدد المنظمة الدولية هيئة الأمم المتحدة اليوم في وجودها واستمراريتها نتيجة عجزها عن القيام بدورها وأداء مهمتها وتحقيق أهدافها التي يتطلع العالم إليها، وفي المقدمة حل النزاعات والصراعات الدولية بشكل عادل وتحقيق السلام والعدل والأمن ونشر ثقافة السلام وردم الفجوة بين الدول، وإقامة تضامن دولي لمكافحة العنف والإرهاب، إلا أن عنف السياسات الأميركية والإسرائيلية والغربية وتوظيف المنابر والمنصات الدولية الذي برز مع بداية الألفية الثالثة بعد أحداث أيلول 2001 من أفغانستان إلى العراق فسورية وفلسطين، وما يجري ضد روسيا وإيران والصين وغيرها، بات دور الأمم المتحدة مهدداً بالسقوط واحتمال خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة يهدد العالم بأسره.
حيث واجه النظام الدولي متعدد الأطراف الذي تُجسده منظمة الأمم المتحدة خلال العقدين الماضيين تحديات جمّة خلال تعامله مع عدد من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والذي تجلى في الفشل الذريع في منع الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 وفي عدم القدرة على إنهاء مأساة الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود، وفي مواجهة تزايد التهديدات الإرهابية وتفشي الجوائح والأمراض وتفاقم المعاناة الإنسانية جراء الفقر والجوع والعطش وفقدان الرعاية الصحية، كما وقعت سورية خلال العقد الماضي ضحية لاستغلال بعض الدول لمنظومة الأمم المتحدة منصة لخدمة سياساتها العدائية والتدخلية في شؤونها.
وخلال السنوات الأخيرة شهدت الجمعية العامة وهي الجهاز الأكبر والرئيس في المنظمة الدولية، ازدياداً ملحوظاً في عدد البنود المدرجة على جدول أعمالها، وازدياداً بصورة غير مسبوقة لعدد القرارات المتخذة دون توافق في الآراء واللجوء في العديد من الحالات إلى الدفع باتجاه التصويت عليها على الرغم من المعرفة المسبقة بوجود جوانب خلافية جوهرية على المستويين المضموني والإجرائي.
وفي الوقت نفسه، شهد أهم جهاز فاعل في المنظمة الدولية، وهو مجلس الأمن استقطاباً سياسياً حاداً تعمدت من خلاله بعض الدول دائمة العضوية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، إلى إعادةِ ترتيبِ المسائل ذات الأهمية، وخلط الأولويات ضمن مساعيها لحرفه عن غرضه الرئيس في حفظ السلم والأمن الدولي، وتسخيره لخدمة حساباتها السياسية الضيقة وأجنداتها الهدامة.
لقد أضحت الحاجة ملحة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، لمراجعة آليات عمل المنظمة الدولية، ومنع تسخيرها من قبل تلك الدول خدمة لحسابات سياسية ضيّقة وأجندات هدامة لمراجعة أساليب وطرائق العمل داخل منظومة الأمم المتحدة وضمان تعزيز التعددية الحقيقية المستندة إلى الميثاق، وذلك من خلال احترام مقاصد ومبادئ الميثاق وتحقيق الأهداف التي نشدها الآباء المؤسسون لمنظومة الأمم المتحدة، ورفع فعالية وكفاءة عملها بما يؤدي إلى رفع مصداقيتها على المستوى الدولي، كما تستدعي الحاجة لإجراء مراجعات دائمة وشاملة لتلك الآليات وأساليب العمل سواء في المضمون أو الأداء والسلوك الإجرائي.
وباتت الضرورة لإصلاح الأمم المتحدة وتفعيل دورها من خلال التركيز على إصلاح هذا المجلس بهدف جعله أكثر تمثيلاً وشفافية من خلال: توسيع قاعدة العضوية فيه، وإعادة النظر في حق النقض (الفيتو) بما يضمن الحفاظ على التعددية الحقيقية، ما يقتضي إصلاح الهياكل الحالية وفي مقدمتها توسيع مجلس الأمن بما يعكس الواقع الجديد للعلاقات الدولية وإصلاح المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بما يجعلهما يلبيان مصالح الدول النامية ودول الجنوب والتصدي بشكل فاعل لمحاولات التلاعب بأحكام الميثاق وتجاوزها أو إساءة تفسير أحكامه لتبرير التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء أو افتعال وتسعير صراعات دامية ونشر الفوضى والإرهاب ومضاعفة معاناة الشعوب وتركها بعيداً خلف ركب التنمية.
إن عجز الأمم المتحدة عن أداء دورها الفاعل في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية بات يتطلب تفعيل المقومات الأساسية للنهوض بعمل الأمم المتحدة، والتي تتمثل في تجسيد معاني التعددية الحقيقية عبر تعزيز قيم السلام وتسوية النزاعات بالطرق السلمية والمساواة في السيادة بين كل الدول الأعضاء والتنمية والتعاون الاقتصادي فيما بينها، وحماية المنافع المشتركة ما يتطلب من جميع الدول الأعضاء التمسك بالأسس التي قامت عليها منظومة الأمم المتحدة، والتي يعكسها ميثاقها إلى جانب أحكام القانون الدولي والأعراف المستقرة في العلاقات الدولية، ومنع استنباط وتعويم مصطلحات ومفاهيم جديدة للالتفاف على أحكام ومبادئ القانون الدولي من قبيل ما يسمى “النظام الدولي القائم على القواعد” والتي تسوقها الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية، وهي مصطلحات ومفاهيم لم تحظَ يوماً بتوافق الدول الأعضاء حولها.
لذلك فإن تطوير وتحسين عمل الأجهزة الرئيسة لمنظمة الأمم المتحدة وفي مقدمتها الجمعية العامة ومجلس الأمن، يتطلب المزيد من الموضوعية والتخطيط الرشيد لإدارة مناقشاتها ومعالجة البنود التي يتم إدراجها على جداول أعمالهما، لاسيما أن ميثاق الأمم المتحدة تبنى تقسيماً واضحاً وضوابط محددة لعمل أجهزته الرئيسة بما فيها الجمعية العامة ومجلس الأمن والهيئات الأخرى المنشأة بموجب الميثاق الذي أفرد العديد من الأحكام التي تنظم آليات وضوابط وحدود ممارسة كل من هذه الأجهزة لمهامه المرسومة والمحددة بالشكل الأمثل.
ومن هنا يأتي الحرص على مراعاة الأحكام التي أفردها الميثاق لدى مباشرة الأجهزة لمهامها وأنشطتها، وأن تقوم بالوظائف المنوطة بها دون أي تجاوز لولايتها أو تداخل أو تعارض في أنشطتها مع عمل الأجهزة الأخرى بما يحول دون إيجاد حالة من الفوضى والتنافس بين تلك الأجهزة سواء على مستوى آلية صنع القرار أو حتى إدارة الأزمات والنزاعات الدولية وأساليب التعامل معها.