الملحق الثقافي- مها محمد:
الإنسان الكامل أو السوبرمان، هو ما دعا إليه نيتشه، وعمل من أجله دائماً، ودفع حياته ثمناً له، وعلى خطا فلسفة نيتشه كانت كما يقال النازية التي أرادت الوصول إلى فكرة السوبرمان، نيتشه الفيلسوف الذي دفع الثمن، وربما من مضى على خطاه يدفعه أيضاً، وفي الفكر الغربي يُقال:
«لو لم يصب نيتشه بالجنون لما حاز تلك الشهرة التي ملأت الآفاق».
نيتشه الذي يُعد أكثر الفلاسفة إثارة للجدل ارتبطت تراجيديا حياته مع فلسفته فكانت حياته وفلسفته وجهين لعملة واحدة ويعتبر من الفلاسفة الأكثر تداولاً.
وكان نيتشه قد عاد إلى الواجهة منذ فترة من الزمن من خلال رسائله باللغة الفرنسية التي جاءت تحت عنوان «الرسائل الأخيرة لنيتشه – شتاء 1887- 1889» ترجمها إلى الفرنسية بانيك سولادييه.
وكانت هذه الرسائل شبه مجهولة نظراً لقلة تداولها باللغة الألمانية، ورغم أنها لا تلقي الضوء الكثير على فلسفته إلا أنها تكشف بعض الزوايا المظلمة لحياته وفكره.
عاش نيتشه (1844- 1900) يتيماً وسعت والدته لإدخاله إلى الدير لكنه غادره وذهب إلى بون حيث دخل الجامعة وهناك تأثر كثيراً بقراءاته للفيلسوف شوبنهاور كما عشق الموسيقا الكلاسيكية وفي تلك المرحلة بدأت مراسلاته حين كتب إلى شقيقته التي كان يحبها حباً جماً وحزن كثيراً لسفرها إلى الأورغواي ومما كتبه إليها: عم نبحث عن الراحة.. عن السعادة؟ لا شيء إلا عن الحقيقة المخيفة.
أخفق في الحب -ويقال إن ذلك سبب فلسفته- مرات عديدة، كانت اهتماماته تشمل أنواع العلوم باستثناء السياسة، اهتم بالمسرح والفلسفة الإغريقية القديمة، وغالباً ما اعتبر ملهماً للمدارس الوجودية كما يعد أول من درس الأخلاق دراسة تاريخية وقدم صورة عن تشكل الوعي والضمير.
من الشخصيات التي تأثر بها فاغنر إذ رأى فيه تجسيداً للعبقرية، لكنه بعد ذلك انقلب، وكان ذلك سبباً في ثورته على القيم الأوروبية، كتب له رسائل عديدة حوالى العام 1870، ظهر فيها اهتمامه بالتراجيديا اليونانية.
كان شديد الإعجاب بالقائد الألماني الكبير بسمارك ومما جاء في إحدى رسائله: بسمارك قائد ألمانيا ومولتكي جنديها وفاغنر شاعرها ونيتشه فيلسوفها.
كانت تأملاته وفلسفته تدور حول العالم الذي حكم عليه بالألم وكثيراً ما كتب في رسائله لشقيقته ولأقرب أصدقائه عن موضوع الألم.
حملت له إقامته في بايروت صداقة مع ملك بافاريا (لويس الثاني)، وأول أزمة فكرية بدأ يعاني منها حين سعى للتخلص من تشاؤمية شوبنهاور وتأثير فاغنز وكان يعمل في تلك المرحلة أستاذاً في جامعة بال.
بعدها التقى فاغنر ثانية وكان هذا الأخير يستعد لعرض أوبرا باسيفال التي اعتبرها نيتشه نقطة الإنهيار الأوروبي وفي تلك المرحلة كتب «المسافر وظله» 1880، ثم ترك التدريس وبدأ يسافر ويتابع مراسلاته ولم تحصد كتبه في تلك المرحلة أي نجاح وأخذ يعاني من ضائقة مالية وهجرة أصدقائه باستثناء بيتر غاست الذي كان يعمل سكرتيراً لنيتشه ويقرأ له.
سافر بعد ذلك إلى البندقية وكتب «الفجر» عام 1881 وفي تلك المرحلة كان يقرأ الفلسفة الهندية وينظر إلى الكون على أنه يتشكل على مراحل، ثم طرح في تلك المرحلة فلسفته الجديدة التي تتمحور حول الإنسان الذي يصبح بطلاً عندما يسعى للعودة الدائمة إلى الطبيعة ويقول لها: سأعود إليك مرة أخرى.
عاش اضطرابات نفسية حادة دفعته إلى محاولات الانتحار ثلاث مرات.
في العام 1882 ظهر إعجابه الكبير بموسيقا شوبان وروسيني وبيلليني من خلال كتابه «العالم المرح».
ثم جاءت صداقته لفتاة روسية تدعى لوسالومي فاتحة مراسلات بينهما وسرعان ما هجرته رغم وقوعه في حبها فعاد إلى إيطاليا وبدأ يتصور فلسفة الإنسان الفائق الطبيعة وكتب الجزء الأول من «هكذا تكلم زرادشت» عام 1885 والذي أعاد النظر فيه بالمبادئ الأخلاقية الفلسفية ونشر الجزء الثالث منه عام 1888 وكان هذا الكتاب بالنسبة له بديلاً عن الإنجيل.
وزرادشت هو الإنسان القوي الذي يحطم القيم القديمة ويستبدلها بأخرى جديدة، ثم كتب عدة رسائل على غرار: أرملة فاغنر وبول لاوسكي الذي أصبح صديقه وبيتر غاست وفي تلك المرحلة تنوعت قراءاته كثيراً حيث قرأ ستاندال وموباسان وشارل بودلير وبدا تأثره بذلك واضحاً من خلال مراسلاته التي تمجد الحياة، وفي تلك المرحلة تقريباً تعرف على دويستوفيسكي.
في عام 1887 نشر «شجرة الأخلاق» وراسل الناقد الدنماركي جورج براندس ثم كتب «أفول الأصنام» الذي امتدح فيه يوليوس قيصر ونابليون وغوته ونيرون مادجج كتابه بالعنف، حتى في رسائله كان ينتقل فيها بين العنف والفرح.
أصيب بالجنون في تورينو بإيطاليا عام 1889 ثم أعيد إلى بال وهناك دخل المصح لتأتي شقيقته وتأخذه إلى قصرها في فايمر وتوفي من دون أن يستعيد عقله.
يقول نيتشه في إحدى رسائله: «منذ أن سكن زرادشت ضميري أصبحت أشبه بالحيوان المثقل بالجراح التي لا يمكن وصفها، جراح سببها أنني لم أتلق أي جواب من زرادشت».
(وكان زرادشت بمثابة العراف الذي يقرأ أفكار نيتشه).
العدد 1142 – 2-5-2023