الثورة – فؤاد مسعد:
حزين هو يوم الفراق، وما يزيد من عمق الحزن ويوغل في الوجع رحيل الكبار، واليوم ترجل مبدع بحجم مدرسة بعد سنوات طويلة من العطاء، إنه شيخ الكار المخرج المخضرم هشام شربتجي «مواليد دمشق 1948» الذي ترك وراءه إرثاً غنياً لا يمحوه الزمن من أعمال كثيرة يمكن اعتبارها بمثابة نقاط علام في تاريخ الدراما السورية والعربية، يحمل كل منها خصوصيته وتفرده.
أذكر تماماً في الشهر العاشر من عام 2021 عندما تعرض لوعكة صحية قاسية، حينها كثيرون رفعوا الدعاء بحرارة لمبدع حفر له مكاناً في قلب كل منا، كانت أزمة مؤلمة ولكنها أظهرت بعفوية مطلقة الكم الكبير من المحبة التي يكنها جمهوره له، واليوم بعد الرحيل تبدو الغصة أكبر ومرة بطعم العلقم أصابت القلوب في الصميم لتبدو نازفة بحرقة في فراق مبدع يعتبر من أعمدة الدراما السورية، استطاع عبر أعماله الكثيرة إضحاكنا وبالحرفية نفسها إبكاءنا، مرسّخاً هوية إبداعية خاصة مستناً لنفسه منهجاً فنياً له نكهته وتنوعه. فأي خسارة وأي فجيعة حلت بالوسط الإبداعي والفني، برحيل مبدع من الطراز الرفيع حفر الصخر بيديه ليُخرج منه ماءً، هو واحد من الكبار، كبير في إبداعه وعمق أفكاره ورؤاه وكبير في تواضعه وإنسانيته التي لا حدود لها.
كان خلال مراحل عمله دائم الشغف بهواجس تسكن روحه ساعياً إلى ترجمتها أعمالاً تعكس ما يرغب في تكريسه على الصعيد الفني والإبداعي، يعتبر المخرج الراحل إشكالياً في اختياراته جريئاً في طروحاته، غاص إلى العمق فيما قدّم باحثاً عن الجوهر وواضعاً إصبعه على الجرح، قدم عدداً من أهم مسلسلات (السيت كوم) العربية وأعمال كوميدية واجتماعية حملت بصمته الخاصة، تناول فيها هموم الناس بمن فيهم أولئك المنتمون إلى الطبقة الوسطى، سعى من خلال كاميرته إلى النأي عن الفبركة والفذلكة البصرية منتصراً للإنسان العادي البسيط طارحاً قضاياه وراصداً نبض الشارع بإطار ينحو نحو البساطة من منطلق السهل الممتنع.
يمكن اعتبار برنامج «قصاقيص» البداية الفعلية للمخرج هشام شربتجي وهو مؤلف من لوحات ناقدة سبق للراحل الحديث عنه قائلاً «هو الأول من نوعه في التلفزيون السوري وحتى في التلفزيونات المجاورة»، وبدأ عام 1984 بإخراج سلسلة «مرايا» مقدماً أربعة أجزاء منها وعاد إليها بعد انقطاع دام سبعة عشر عاماً لينجز «مرايا 2006»، وقدم عام 1990 مسلسل «بناء 22»، ثم بدأ بسلسلة النجوم ابتداءً من «عيلة خمس نجوم» عام 1994 ومن الأعمال التي حملت طابعاً كوميدياً نذكر «يوميات مدير عام ، أحلام أبو الهنا ، جميل وهناء ، بطل من هذا الزمان»، وفي عام 2000 أخرج المسلسل الاجتماعي «أسرار المدينة» الذي أعتبره من الأعمال الأحب إلى قلبه، ومما قدم بعد ذلك «رياح الخماسين، جرن الشاويش، المفتاح ..» كما خاض تجربة «بقعة ضوء» في جزئه الخامس، وآخر عملين قام بإخراجهما كانا عام 2017 وهما «مذكرات عشيقة سابقة» و»أزمة عائلية».
تعجز الكلمات عند رثاء مبدع بحجم هشام شربتجي، حمل عبر ما قدم هموماً كبيرة تتجاوز طموحه الفردي لتصل في حدودها إلى ما هو أعم وأشمل، تعاطى مع مفردات الواقع والحياة ليؤلف منها حياة جديدة عبر نتاج إبداعي مُشبع بروحه، وبرحيله يخسر الحراك الفني والإبداعي قامة كبيرة، ولكن يبقى العزاء بما سطره من أعمال تبقى ضمن الذاكرة الجمعية للناس ومن إرث إبداعي وفني وفكري وجمالي وحضاري لا يمحوه الزمن لأنه راسخ لا يموت.