الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
شهِد َ العقد الثاني من الألفية الثالثة، أي القرن الحادي والعشرين موجة، بل موجات من الأحداث، أُطلق عليها زوراً وبهتاناً(ثورات الربيع العربي والتي بدأت في عدّة بلدان عربية:تونس، ليبيا، مصر، سورية، اليمن…
أحداثٌ متلاحقة طرح مصممّوها ومموّلوها شعارات برّاقة مثل (الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، وغيرها…؟! )
هذا الربيع المزعوم استهدف الدولة الوطنية بكلّ مكوّناتها ومنظوماتها الفكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وصولاً إلى التدمير الممنهج وإسقاط الأنظمة السياسية القائمة، وتعويم الأصولية الدينية المرتكزة على التطرف والإقصاء والتكفير والفكر الظلامي، فقامت أدواته على الإرهاب والقتل والتدمير وتضليل الرأي العام وتشويه الحقائق، مستخدمة أذرعاً عسكرية واقتصادية وإعلامية وثقافية، جعلت من منطقتنا العربية ساحة صراع لقوى كبرى، وقوى إقليمية تدور في هذا الفلك أو ذاك، وبالتالي أصبحنا أمام حروب صغيرة متعددة الأوجه والأهداف، فازداد الواقع تشرذماً وانغلاقاً انعكس سلباً على كل مناحي الحياة.
هذا المشهد من عدم الاستقرار فرض تحدّيات كبيرة واجهت المهتمين بالشأن الثقافي لناحية زيادة الوعي لما يجري في الساحة العربية والعمل على تحصين المجتمع الذي يعاني ما يعانيه أصلاً من تحديات مثل الجهل، الجمود الفكري، الفقر والأمية، غياب الديمقراطية وقبول الرأي الآخر…هذه التشوهات في المشهد الثقافي العربي ازدادت حدّة مع تبني الكثير من الأنظمة العربية لموجة التغيير القادمة من الخارج، فتراجعت الثقافة كمفهوم، وتراجع دور المثقف التنويري، وأصبحت ريشة في مهبٍ الريح.
إن أي نهضة ثقافية عربية لا يمكن أن تنجح وترى النور بمعزل عن نهضة شاملة سياسياً وفكرياً وتربوياً واقتصادياً و….إذ لا وجود لأي نهضة ثقافية في ظل واقع سياسي مترهّل تغيب عنه رؤى التطوير والتنوير والتضامن العربي والذي هو أضعف الإيمان.
في ظل ثورة الاتصالات والتواصل وتفجّر المعرفة، والتي أصبحت سمة رئيسة للواقع الحالي لا بد من تفعيل العمل العربي المشترك وتعزيز آلياته وتطبيقه على أرض الواقع، و تمتين الروابط والوشائج بين الأقطار العربية، وتبنّي مشروع فكري عربي نهضوي تنويري، يبتعد عن الفردية والعزلة والمصالح الضّيقة، وتكريس الثقافة المنفتحة على الآخر، وصولاً إلى ردم الفجوة الكبيرة بين الأقطار العربية والتي ازدادت وتوسعت مع بداية العقد الثاني من هذا القرن فحلّ التناحر والتنابذ والصراع بين العديد من الدول محل التضامن والتعاون والتكامل والتي بقيت شعارات يتم طرحها خلال المؤتمرات والندوات واللقاءات العربيّة ليس إلاّ؟!
واليوم مع تبدّل في المشهد السياسي وما شهده من تداخلات أدّت إلى تشويش في المواقف خلال العقد الأخير، بدأنا نلحظ عودة تدريجية للعلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدان العربية، والعمل على تنقية تلك العلاقات بما ينسجم مع تطلعات وطموحات الشعب العربي الذي يرى في أي تقارب فرصة كبيرة لإحياء روح العروبة، والعمل على تمتين الروابط الثقافية، والتي يُعوّل عليها الكثير لزيادة الترابط الفكري والثقافي والمعرفي بين أبناء العروبة.
ومع انتشار ثقافة العولمة وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة لا يمكن للعرب أن يكونوا بمنأى عن هذا التأثير المباشر أو البعيد، فقوتهم والحفاظ على الهوية والوجود يكون من خلال انفتاح الأقطار العربية على بعضها البعض، وتعزيز الثقافة الوطنيّة والقوميّة، والارتقاء بحواملها المتعددة والمتجدّدة:التعليم، الإعلام، الكتاب، محاربة الأميّة، إنشاء سوق ثقافية مشتركة تعمل على النهوض بالثقافة العربيّة والارتقاء بها، والانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق، مع الاتكاء على الموروث الحضاري للأمة العربيّة، والذي يشكل عاملاً رئيساً في نهضتها وتقدّمها والاستفادة من تقنيات العصر وتوظيفها بالشكل الأمثل لتعزيز التواصل الحضاري والثقافي بين أبناء العروبة.
إنّ بناء استراتيجية ثقافية عربيّة يعد ّ من أولويات التخلص من واقع الشتات الذي تعانيه ثقافتنا العربية، والتي هي ليست كما يريدها المثقفون العرب وكل من يعمل في المجال الثقافي..؟!
ثقافتنا العربيّة ليست بخير، وهي لا يمكن أن تتجاوز التحدّيات والتّشوهات التي لحقت بها إن لم تستثمر التقارب والتلاقي السياسي، وهما مقدمة للتقارب الثقافي بمختلف مجالاته وأنواعه، وبالتالي تساهم الثقافة كونها أحد اهم حوامل الوعي والنهضة في تعزيز الانتماء الوطني والقومي، والمساهمة في إيجاد الحلول الناجعة وبشكل نهائي لمشاكل المجتمع العربي السياسية والاقتصاديّة والاجتماعية.
إنّ أي نهوض في الواقع الثقافي العربي يجب أن ينطلق من دراسة التحديات التي تواجه الثقافة العربية وتحليلها والتغلّب على المعوّقات التي تعترضها من جهة، وتفعيل حركة التواصل الثقافي والمعرفي بين البلدان العربية وإقامة العلاقات الوطيدة بين المؤسسات الثقافية وفق خطط واستراتيجيات مستقبلية تأخذ بعين الاعتبار التطور التقني الحاصل في العالم، وصياغة مشروع ثقافي عربي جامع يكون امتداداً لما هو موجود والبناء عليه، فالثقافة لم تعد ترفاً كما يراها البعض ! او طقوساً فرديّة لأشخاص ينظّرون من أبراج ٍ عاجية…..في الإصلاح والتغيير و…
الثقافة اليوم أضحت صناعة تحتاج إلى مقوّمات مادية ومعنويّة، بحاجة إلى رؤوس الأموال، بحاجة إلى التشجيع وتبني مشاريع ثقافية استثمارية شاملة في الفكر والمسرح والسينما والفنون وإنتاج الكتاب وتسويقه وغيرها من قضايا، وهذا يمكن أن يتحقق عندما تتطور وتتنقّى العلاقات السياسية بين البلدان العربية على أسس وطنيّة وقوميّة بعيداً عن الاصطفافات الإقليمية، ووضع مصلحة الشعب العربي في أولويات تلك العلاقات، وما يأمله كل عربي سواء أكان مثقّفاً أو عاديّاً ألاّ يبقى هذا حلماً بعيد المنال !؟؟
العدد 1145 – 23-5-2023