الدكتور صابر فلحوط:
في ذكرى صعود الزعيم الخالد حافظ الأسد إلى الرفيق الأعلى، تنحني جماهيرنا بهاماتها وقاماتها، إجلالاً للرحيل المدوي، وتمجيداً للمآثر الخالدة، وعهداً على مواصلة السير على نهج الرسالة التي حمل لأداء الأماني التي استودعتها في القلوب والعقول والوجدان.
لقد كانت مسيرة الزعيم الخالد تاريخ أمة، فإذا ارتحل، وانتقل وترجل، فإن ما صنعت يداه، وأبدعت عبقريته، وأنجزته قيادته العملاقة والخلاقة سيبقى خالداً يسعى على الأرض بقدمين من حب للتراب والتراث والوطن، وإصرار على إعطاء الجهاد، والاستشهاد من أجل العزة والكرامة كل ما يرضي روح الزعيم، حيث هو في منبر القديسين والشهداء والعظماء الذين أعطوا وطنهم ذوب قلوبهم، فأعطاهم الخلود السرمدي، والثناء العاطر مدى الدهر.
لقد ساقتني الأقدار، أن ألتقي الزعيم الخالد لأول مرة في تموز 1959، وكان طياراً يتدفق شباباً وحماسة وإيماناً، والتقيته بعد الانفصال الأسود في تاريخ سورية، حيث كان يمضغ الآلام ويتوعد أعداء الوحدة ويرسم طريق الخلاص.
وأشهد أنه كان كلمة السر في ثورة آذار التي انطلقت صبيحة الثامن من آذار عام 1963، وكان لي شرف الإسهام في إذاعة بلاغاتها الأولى التي كانت ولا تزال تدعو إلى الوحدة العربية وتحصين الموقف العربي والسيادة القومية وتحرير الأرض واستعادة الحقوق في فلسطين، وكل أرض عربية محتلة.
وأذكر أنني زرته في تشرين الأول عام 1963 في قاعدة الضمير وكان قائداً لها، ووجدته يقرأ في كتاب للغة العربية وقد فتح الكتاب على عنواني (كان وأخواتها، وإن وأخواتها) وهذا لابد من التنويه أنه عندما رويت هذه القصة للصحفي اللامع باتريك سيل ذكرها في كتابه الشهير حول سورية معلقاً بقوله: “إن الأسد كان يعد نفسه مبكراً ليكون قائد وطن لا يخطئ حتى باللغة العربية شأن علمائها”.
وآية الأسد الخالد عظمته تكمن في جملة من المواقف يمكن الإشارة إليها:
1ـ كان يحسن الإصغاء ويشعر ضيوفه وكأنهم في مستواه لا أقل، حتى إذا ما طرحوا كل الذي يريدون يرد عليهم بتسلسل منطقي “مدوزن” كأنه أصفى الألحان وأدقها كمن يقرأ في كتاب.
2ـ القدرة المتميزة على الصبر خلال الحوار والنقاش والوقار وعدم الحركة، وأذكر أنه استقبلنا مع رؤساء تحرير الصحف الأردنية عام 1984 مدة ست ساعات وربع الساعة لم يضع رجلاً فوق أخرى ولم يتململ، حتى علق أحد الضيوف بعد الزيارة قائلاً: هل لاحظتم أنه لو وضعنا مسطرة بين قدميه لما زادت المسافة أو نقصت (سنتيمتراً واحداً).
3ـ القدرة على الاستيعاب وإطالة البال وتوسيع الصدر، والصبر على الهموم والمتاعب ثم الحسم بحزم بعد استنفاد جميع وسائل الدبلوماسية، والنصح والإقناع والحرص على عدم خسارة الرفاقّ.
4ـ كان الزعيم مسكوناً بهاجسين اثنين: الأول: تحرير الأرض في الجولان وفلسطين والجنوب اللبناني، والثاني تحقيق الوحدة العربية، ولهذا فقد أعطى حرب تشرين التحريرية ذوب قلبه وعصبه، ومنح المقاومة الوطنية اللبنانية كل دعمه وإسناده متعدد الأشكال والميادين، كما انطلق بعد التصحيح المجيد لتحقيق الممكن على طريق الوحدة، فكان اتحاد الجمهوريات العربية الذي قامت حرب تشرين التحريرية تحت ظلال سيوفه.
5ـ كانت الكرامة الوطنية تمثل قمة القيم لدى الزعيم الخالد، ولهذا كان يتحدث مع الكبار في هذا العالم من المستوى والارتفاع والحجم نفسه، لهذا فإن الزعيم الخالد كان القائد الوحيد في هذا الكون الذي لم يزر البيت الأبيض، بل التقى القادة الأميركيين، إما في دمشق أو في منتصف الطريق ـ في جنيف.
وأذكر أنه عندما جاء هنري كيسنجر أشهر وزراء الخارجية في أميركا والعالم إلى دمشق، في أعقاب حرب تشرين التحريرية، بادر الزعيم الخالد بقوله: “سيادة الرئيس أنا وزير خارجية أكبر دولة في العالم أرجو أن توقفوا حرب الاستنزاف في جبل الشيخ والجولان خلال فترة وجودي هنا كي يقال إن القصف توقف عند وصولي إلى دمشق”.. فأجابه الزعيم الخالد: “إن قرار حرب الاستنزاف يعود للشعب في سورية ولهذا فإنني لا أستطيع تلبية هذه الرغبة خلال مدة زيارتكم”، وعندما دعا الزعيم الخالد الوزير كيسنجر إلى الغداء في بيته كانت المائدة عامرة بالطعام المنوع والغني كما هي العادة العربية.. فحاول كيسنجر أن يغمز من قناة الزعيم بقوله للسفير الأميركي: انظر هذه المائدة التي تكفي لعشرة أضعاف الحضور وهذه من أسباب وعناوين الهدر والتخلف عند العرب.. وما أن سمع الزعيم الملاحظة حتى قال للمترجم قل للسيد كيسنجر: “إنها عادات شعبنا في الكرم وإن هذا الطعام نمده لمن لم يشبعوا في بيوتهم” فعلق السفير الأميركي بقوله: “تستحق ذلك لأنك حسبت نفسك تتحدث مع أمير أو قائد، وليس مع الأسد”.
إنني أسجل في دفتر ذكرياتي الغوالي، أن الزعيم الخالد كان يجل الصحافة، ويقدر دورها ورسالتها، وقد عبر عن ذلك أبهى تعبير وأعظمه، عندما لم يحمل طوال عمره الرئاسي إلا هوية اتحاد الصحفيين في سورية مع أنه كان يُحلُّ جميع المنظمات والنقابات والمواطنين بين البطين والأذين من قلبه الكبير.
وأذكر أنه عندما شرفني القدر أن أقدم له بطاقة عضوية اتحاد الصحفيين في سورية على مدرج الجامعة في تموز 1974 بحضور أعضاء المؤتمر العام الرابع لاتحاد الصحفيين العرب، وجلست إلى جانبه قال لي بأبوة ومودة أعتز بها: “هل أصبحت صحفياً الآن.. قلت نعم سيادة الرئيس.. قال: هل أستطيع أن أتكلم على كيفي كما يفعل بعضكم؟ قلت لا أعتقد ذلك”.
وكانت هذه الملاحظة درساً ومدرسة فهمناها توجيهاً للصحفيين في بلدنا كي يدققوا ويستوثقوا من كل كلمة وموضوعة قبل إطلاقها في فضاء المجتمع بالنظر لخطورتها وأهميتها وآثارها على الرأي العام وتوجهات الجماهير والنسيج الاجتماعي والجبهة الداخلية.
لقد كان الزعيم الذي نحيي ذكراه السنوية هذه الأيام وعلى الدوام كبيراً في حجم هذا الوطن الشامخ، عظيماً في مستوى عظمة هذه الأمة الخالدة.
*الرئيس الفخري لاتحاد الصحفيين