الثورة ــ أديب مخزوم:
معرض الفنان يوسف عبدلكي الجديد في غاليري كامل 2023، محمل بالرموز والدلالات المعبرة عن واقع الحياة والعصر، حيث رأينا مجموعة لوحات كبيرة، يبرز فيها عنصر واحد بكامل مساحة اللوحة، وهي لوحات تعمل على كسر نواحي تقديس الألوان وأعطائها أهمية قصوى في لوحات معظم الفنانين الآخرين، فهو وعلى خلاف معظم الفنانين المعاصرين يجاهر ومنذ سنوات طويلة بإيقاعات لونية رمادية، ربما لأنها أكثر بلاغة وقدرة في التعبير عن رمادية الواقع الحياتي الراهن المشحون بالتناقض والعنف والاضطراب اللامعقول، ومن خلال لوحاته الكبيرة وألوانه الرمادية يجسد بدقة واقعية مشحونة بالتفاصيل والرموز مواضيعه وعناصره: مثل العصفور والجمجمة والزهور، ويجعلها مطعونة بالسكاكين الحادة والمسامير، كما يظهر مدى جاهزية المدية الحادة، وغيرها من وسائل التعبير التي تمنح اللوحة درامية خاصة بالفنان عبد لكي وحده.
وهو حين يجسد اليد بمساحة اللوحة ويجعلها مثبتة بمسمار كبير، فهذا يشير مرة أخرى إلى أن الصلب يتواصل، والمآسي تتجدد في عمق حياتنا الراهنة، وحين يقدم العصفور مقتولاً بمساحة لوحة أخرى، فهذا يشير بطريقة غير مباشرة، إلى أن الإنسان مقتول، ويعبر عن مدى جسامة المجازر التي ترتكب بشكل يومي بشعارات التمدن والحضارة، وإلى مدى ضراوة الحروب المشتعلة في أماكن متفرقة من العالم. وهذا ينطبق على الزهرة المطعونة بسكين حادة، دون فقدان الأمل.. وفي تجسيده للعائلة والوجوه يجهد لإظهار حالات الحزن المركز في العيون وتعابير الوجوه, ومن أجل ذلك تقترب لوحاته المعروضة من الواقع الحياتي المأساوي الذي يعيشه الإنسان المعاصر في كل لحظة، فهي في مجملها لوحات تعكس صدى ألوان الواقع المأساوي والمفجع والمرعب، انطلاقاً من أشياء رمزية كالجمجمة والعصفور واليد ورأس الطير أو السمكة والطبيعة الصامتة والوجوه والشخوص، ومن خلال هذه المواضيع والرموز، يجسد مشاعره الساخطة تجاه الواقع الراهن الذي اغتال الرؤى التفاؤلية والأحلام الوردية.
هكذا يعمل عبدلكي في رمزيته التعبيرية الفجائعية على إظهار الطيور والرؤوس والجماجم دون روح، ودون حياة، لإبراز تداعيات الموت والتطلعات الشاحبة بتدرجات رمادية مستمدة من ألوان الواقع. وفي معرضه الجديد، تواصلت أشلاء الكائنات المعبرة عن حالة الواقع المتردي وعبثيته المجنونة وإيقاعه المحزن والمخيف والمتوتر والجنائزي.
ولوحاته التي قدمها في جميع مراحله الفنية تشكل في النهاية تساؤلات غير مباشرة حول مصير الإنسان المعاصر المحاصر بحالات القلق والاغتراب والإحباط، إنها عناصر لمسرح تشكيلي يعبر عن الواقع المعاش والعصر.
وعلى الصعيد التشكيلي يبدو عبدلكي خارج كل المدارس الفنية الحديثة والمعاصرة، التي عرفتها صالات ومتاحف عواصم الفن الكبرى، والتي تعتمد على اللمسات اللونية العفوية والمتتابعة، فهو يرسم بلونين أساسيين هما الأسود والأبيض، ولوحاته تبرز كل تداعيات ومشاعر القلق والضياع، إنها تجسد ارتجاج واهتزاز الأمكنة والجدران ومشاعر الغربة وضياع الأحلام في الأزمنة الراهنة.
كأن الشعور بوطأة الحياة، يمنعه في هذه المرحلة من التعبير بألوان مشرقة ومتنوعة، تملصه من حالات البقاء في دائرة ألوان الغربة وانكسارات الزمن والشعور المرافق لحالات الخوف والرعب والقلق والإضطراب، وهو يتوغل في رؤية التفاصيل الدقيقة للوصول إلى الرؤى التعبيرية الرمزية المشبعة بالمآسي والويلات والحروب المتواصلة دون عبر.
وهذا يعني أن لوحاته تشكل في النهاية تساؤلات غير مباشرة حول مصير الإنسان المعاصر المحاصر بحالات القلق والاغتراب والإحباط، إنها عناصر لمسرح تشكيلي يعبر عن الواقع المعاش والعصر.
ولقد شهدت تجربته خلال العقود الأخيرة، تحولات على صعيد المعالجة والمواضيع المطروحة، فالمعرض الذي أقامه عام 1995 تحت عنوان (أشخاص) حمل بعض معطيات الفنون العربية الزخرفية، من خلال اتجاهه نحو شغل فضاء بعض المساحات التي تكوّن الشكل الإنساني ببعض البنى الزخرفية الهندسية، ودخل في محاولات التخلص من إطار التوازن أو التكرار، الذي هو جزء من حركة الزخارف التقليدية، بحيث تحولت الزخارف في بعض مقاطع لوحاته السابقة، إلى مجرد خواطر عفوية تحققت من خلال بعض اللمسات المتتابعة في فراغ السطح التصويري.