الثورة – حسين روماني:
بين إعلام حكومي خرج لتوّه من أربعة عقود من التمجيد، وإعلام بديل يحاول أن يرسّخ قيم الدقة والموضوعية وسط شحّ الموارد، يقف المشاهد السوري اليوم على مفترق طرق حاسم، لم تعد الأخبار وحدها تكفي، بل صار التحقيق والاستقصاء ضرورة لفهم ما وراء الحدث وكشف ما خفي.
في ظل انفجار المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، والكم الهائل من الأخبار الكاذبة، يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن للصحافة أن تعيد الثقة إلى جمهورها؟.
كيف يمكن أن يتحوّل الإعلام من أداة نقل إلى أداة تحقيق ومساءلة؟.
وما المهارات والخطوات المطلوبة لبناء إعلام مستقر وموضوعي في سوريا اليوم؟.
أكرم الأحمد – صحفي ومدرّب دولي يقيم في فرنسا، يدير مركز الصحافة الاجتماعية المرخّص هناك، ويرأس مجلس إدارة هيئة ميثاق شرف للإعلاميين السوريين التي تضم 28 مؤسسة إعلامية، خبرته العملية امتدت لعقود، إذ أدار مؤسسات إعلامية بارزة مثل المركز الصحفي السوري والمعهد السوري للإعلام وإذاعة الحدث ومجلة الحدث، وكتب للعديد من الصحف العربية والغربية، درّب أكثر من 3100 صحفي سوري وعربي في 170 دورة، وشارك بمحاضرات وندوات في جامعات ومراكز ثقافية حول الإعلام والحوكمة وإدارة الأزمات، كما قدّم محاضرات عن الصحافة الحساسة للنزاعات، وأنتج وأخرج أفلاماً وثائقية وتقارير تلفزيونية ورسوماً متحركة، منذ نهاية 2011 أسّس المركز الصحفي شمال سوريا لسدّ الفجوة المعرفية في الإعلام البديل الذي نشأ مع الثورة، حاملاً قيمها ومبادئها.
كان لنا مع الأحمد حوار عبر اتصال هاتفي لتقيّم واقع الإعلام السوري اليوم من حيث الدقة والموضوعية، فبرأيه أنه لابد من التمييز بين ثلاثة أنماط من الإعلام السوري..
– الإعلام الحكومي يعيش انتقالاً من إرث أربعين عاماً من الإعلام الممجّد إلى محاولات أولية للموضوعية، بدأ يعرض وجهات نظر متعارضة، وأحياناً يسلّط الضوء على أخطاء الحكومة، وهو ما لم يكن ممكناً في السابق، لكن مشكلته الكبرى اعتماده شبه الكامل على المصادر الرسمية، وغياب أدوات متطورة للتحقق من الأخبار، لذلك يبقى تحسنه بطيئاً وإن كان إيجابياً.الإعلام الخاص التقليدي الذي وُجد في عهد النظام المخلوع، لايزال أسير المركزية السابقة، ويعاني من ضعف الكوادر والإمكانات.
الإعلام المستقل والبديل الذي ظهر بعد 2011، خاصة في شمال سوريا ودول الجوار، يُعتبر الأكثر دقة وموضوعية، لأنه طور أدواته مع الزمن وتلقى تدريبات على القيم المهنية، لكن تحديه الأساسي محدودية الكفاءات والموارد المتاحة له.
– وفي سؤاله، ما الفرق بين الخبر السريع والتحقيق الصحفي العميق؟
يجيب الأحمد: الفرق بينهما جوهري.. الخبر السريع يهدف إلى نقل المعلومة بسرعة، يجيب عن الأسئلة الستة، ويُبنى على قالب الهرم المقلوب، بمصادر مباشرة وفورية، أما التحقيق العميق، فوظيفته الكشف والتفسير، والغوص في ما وراء الحدث عبر البحث في الخلفيات والزوايا المخفية، يُقسم إلى محاور متعددة، يعتمد على شهادات متنوعة ووثائق، ويستغرق وقتاً أطول، لكنه أكثر شمولاً وإضاءة.
– في ظل انتشار الأخبار الكاذبة، ما هي أهم المهارات التي يجب أن يتقنها الصحفي الشاب؟
برأي الأحمد، أن أهم ما يحتاجه الصحفي الشاب هو إتقان المهارات الرقمية الحديثة، تحليل البيانات، استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لرصد الشبكات وكشف التضليل، وإتقان تقنيات التحقق، إلى جانب ذلك، يجب أن يصقل مهارات البحث والتحليل والتفكير النقدي، وأن يعرف جيداً طبيعة المنطقة التي يعمل فيها بثقافتها وجغرافيتها وتفاصيلها، لأن هذا الفهم يساعد على التدقيق والوصول إلى سياقات دقيقة، ولابد أيضاً من تطوير مهارات التحرير والالتزام بالقيم الأساسية: الدقة، الموضوعية، احترام الخصوصية، ومواجهة التضليل بوعي مهني.
مانشيت: “الصحفي الشاب اليوم مطالب بإتقان أدوات الذكاء الاصطناعي ليقاوم التضليل.”
– كيف تسهم الدورات التدريبية في بناء جيل من الصحفيين الاستقصائيين؟.
التدريب عنصر أساسي، الصحفي بحاجة إلى تطوير دائم لا يقتصر على دورة أو فترة محددة، بل إلى ممارسة يومية حتى لو كانت نصف ساعة، الدورات تمنحه أدوات عملية: جمع البيانات، تحليل الوثائق، صياغة فرضيات، وتتبع الخيوط وصولاً إلى إنتاج مادة استقصائية متكاملة، كما تتيح له التعرف إلى أساليب السرد الاستقصائي الحديثة، وفهم الأبعاد الأخلاقية لعمله، ما يجعله قادراً على إنتاج محتوى متوازن واحترافي.
– ما الأخلاقيات الصحفية التي لا يمكن التنازل عنها مهما كانت الضغوطات؟.
جميع المبادئ المهنية أساسية: الحرية، النزاهة، الدقّة، التوازن، الشفافية، وفصل الرأي عن الخبر، وفي ظروف النزاعات تبرز أولويات إضافية: تجنّب خطاب الكراهية والتحريض، دعم خطاب السلام، احترام حقوق الإنسان، وتحمّل المسؤولية والمساءلة، هذه القواعد تشكّل الأساس الذي يُبقي الصحفي مهنياً مهما كانت الضغوط.
وفي نهاية حديثنا مع الأحمد سألناه: كيف ترى مستقبل الإعلام الاستقصائي في منطقتنا؟. هل هناك بيئة حاضنة له؟.
الصحافة الاستقصائية لا تزال في طور الولادة في المنطقة العربية، وسوريا مثال صارخ على هشاشة البيئة الحاضنة، لكنّها مع ذلك ضرورة لا غنى عنها، خصوصاً أن النظام البائد خلّف تركة هائلة من الفساد واستغلال السلطة والجرائم المنظمة، تكفي آلاف التحقيقات، وحدها الصحافة الاستقصائية قادرة على كشف هذه الطبقات المظلمة، وعلى ضمان استمرار الصحافة المتخصصة في مواجهة وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي.
في مشهد إعلامي متحوّل، يظل الإعلام المستقل البديل هو الأكثر مهنية، فيما يحاول الإعلام الحكومي شق طريقه بخطوات بطيئة، ويبقى الإعلام التقليدي أسير الماضي، ومع تطور أدوات التحقق والتدريب المستمر، يمكن للصحافة الاستقصائية أن تتحول إلى حجر الزاوية في مستقبل الإعلام السوري، شريطة التمسك بالقيم الأخلاقية والموضوعية.