الملحق الثقافي:
بداية، في هذه المساحة من الكلام، نشير إلى نقطتين نرى في الإشارة إليهما ضرورة، وهما:
1- الكلام هنا متعلق بالشكل/ النظام الشعري العربي منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، وتحديد الزمن يعني من جهة أخرى أن هذا الشكل قد تعرض لتغيرات، وهو ماعرفته القصيدة العربية.
2- أن ثمة شكلاً/ نظاماً شعرياً حاضراً بمثوله الخاص.، والشكل في الجنس الأدبي ملازم له، لأن (الشكل) صورة حضوره، والصورة عنا هي صورة (عيانية)، تراها العين، وتميزها فور وقوعها عليها، وهو تمييز للجنس أياً كان، مما تمكن مشاهدته، فالشكل بهذا المعنى هو(هوية) الخارجي المرئي وقد سبق أن قلنا: إن مالايرى يكاد يكون معدوماً، على حدّ تعبير أحد الأئمة، وكلامنا هنا عن عالمنا المعروف بشدة الحضور البصري، وهذا القول لايتعارض مع غير المرئيات، ولا يدحضها، كما أن الغرض ليس نفيها، فهي موجودة بالفعل، وبالأثر، ولها حضورات متنوعة.
هنا نلفت إلى أن تفاصيل الشكل الشعري المرئية بكلا البصر والبصيرة تتداخل، وتتقبل ظهور ملامح الآخر فيها، ومثوله، بحيث تبدوان وكأنهما في حالة من التماهي الذي لايفصل إلا لغرض الدراسة النظرية، وأعتقد أن المبالغة لدى البعض في الحرص على إبراز تشكيل القصيدة على البياض كان وراءه من يحب أن يعلن بمناداة خاصة، أوبإعلان لافت أن هذه (قصيدة)!! وهذا يسري على كل من نظام قصيدة الإيقاع/ العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر، فبعد انتشار شكل نظام التفعيلة، بعد خمسينيات القرن الماضي، صار للقصيدة شكل جديد، هو غير الشكل الذي عرفه العرب على مدى قرون، وهو شكل خارجي مختلف عن شكل قصيدة العمود، وكان الحرص بادياً على تمليكه شكلاً، بل وتشكيلاً على البياض بحيث ما إن تراه العين حتى يقول الناظر إليه:«هذا شكل شعر» يعني بذلك الشكل الخارجي، وهومظهر التمييز لاالتميز، ولأن السطر الشعري، أو الجملة الشعرية في نظام قصيدة التفعيلة غير محددة بمسافات إيقاعية ملزمة، بل تحكمها المسافات المكونة لإيقاع التفعيلة، وتشكيلة وزن البحر العروضي في صورته الجديدة، بسبب هذا فإن الشكل الخارجي للقصيدة لم يعد متوازياً ولا متناسقاً تناسق الشكل العمودي القديم، وانبسطت على الورق، اعتبارات أخرى، منها طول الجملة الشعرية، وطول السطر الشعري، وهذه الأطوال محكومة باللحظة الإبداعية، وبقدرة الشاعر على التكثيف، وامتلاك ناصية اللغة، إضافة لمسائل أخرى. ولم يتفق شعراء قصيدة التفعيلة على شكل خارجي واحد، لأنه غير ممكن، وصار كلّ شاعر يختار (تشكيلاً) يرتاح إليه، وربما دون التزام بالاستجابة لمقتضيات الحضور الوزني الإيقاعي، وامتدادات (المعنى) حتى إنها أخذت أشكالاً لافتة على يد البعض، وإن على قلة، كأن يكون الشكل شجرياً، أوقريباً من التركيب الهندسي وصار من العسير معرفة لماذا يوزع هذا الشاعر سطور قصيدته بهذا الشكل، ويختار آخر شكلاً آخر، وما قد يعلله (زيد) قد لاتجد له تعليلاً عند (عمرو)، وصار مايرتاح الشاعر لطريقة توزيعه/ تشكيله الخارجي وحده المقياس المعتبر عنده.
في هذا السياق من المهم استحضار الشعراء الذين عادوا لكتابة شكل نظام العمود، أو الذين كان معظم إنتاجهم على نظام التفعيلة الإيقاعي، وذلك منذ ثمانينات القرن العشرين، حيث برزت مجموعات من الشعراء الشباب تأخذ بنظام العمود، مشحوناً بحساسيات شعرية جديدة، وقد برزت هذه الفعالية في كلّ من العراق، وسورية- بحسب ما أعرف- وأنا جد آسف لأنني لا أعرف الكثيرعن هذه الحركة في بقية أقطار الوطن العربي، مع اقتناعي بوجودها بحكم قانون الأواني المستطرقة في تواشجات الأمة الواحدة، وعدم الاطلاع الكافي هو بسبب الانقطاع الشنيع،، الذين أشرنا إليهم آثروا العودة إلى الشكل المعروف للشعر العربي القديم، فجرى التوزيع على شكل صدر، وعجز، ربما للتعبيرعن مزية يرونها في هذا الشكل، أو لدلالة نفسية، أو انتمائية، ومانقوله لاعلاقة له بالإيديولوجيا، وما قرأته وما استمعت إليه من هذا النمط يقدم قصيدة مشحونة بروح الشعرية العالية، (الحداثية) السمات والعلاقات، والبناء.
في هذه المحطة سنجد أن ثمة (انبتاتا) حدث، وهو في قصيدة النثر أكثر حضوراً مما هو عليه في قصيدة نظام التفعيلة، ففي نظام التفعيلة، بحكم البنية الإيقاعية الوزنية، وبحكم (القافية) فإن الشاعر يوحي من خلال تشكيله للنص خارجياً، يوحي للقارىء بأن ثمة (قافية) من خلال مفردة القافية، كأن توضع على سطر منفرد، أو في أول السطر مفردة، أو في آخره، أو كأن يعمد الشاعر إلى ترك فراغ سطر واحد بين سطر شعري وآخر ليدل القارىء غير المتمرس على وجود القافية، أو على انتهاء السطر الشعري، وهذا لانجده ملزماً في تشكيل قصيدة النثر لخلوها من القافية، وإذا كانت قصيدة نظام التفعيلة قد ظلت محتفظة بالكثير من ملامح المعمار الإيقاعي والتشكيلي، بحكم إيقاعيتها، فظل ثمة حبل سري يصلها بشكل قصيدة نظام العمود على صيغة ما،فلم تنقطع ، فإن قصيدة النثر بحكم تركيبتها الخالية من الإيقاعية تأخذ شكلاً، أوأشكالاً جديدة، ليس فيها مايوجب وضع تلك الشارات الدالة، وبذا، فهي بنت ذلك الشكل (الغربي) الذي حملت الكثير من استلهاماته الشكلية، مترجماً بدءاً من خلوها من الإيقاع/ الوزن، ولايغير من هذه الحقيقة اعتبار ماقاله بعض المتصوفة في التعبير عن لوبانهم الكوني أنه جذر لقصيدة النثر العربية، لأن أولئك المتصوفة حين كتبوا ذلك البوح العالي الرفيع، تعبيراًَ، وصياغة، كتبوه على شكل أسطر مايكتب به النثر في ذلك الزمان، وهذه الناحية الشكلية لاتقلل من قيمة ماكتبوه، ولامن قيمة ماكتبه من جاء بعدهم من أصحاب قصيدة النثر، ممن يبدعون نصوصاً جميلة رائعة.
العدد 1153 تاريخ: 1/8/2023