الثورة – علا مفيد محمد:
على جبلٍ شاهق يعلو بقمته مستوى السحاب تغفو قرية صغيرة مشيدة بدفء ينبعث من سواعد ساكنيها ما جعلها أجمل البيوت رغم بساطتها، اعتاد أهلها أن ينظروا إلى السحاب منساباً فوق رؤوسهم وحتى إذا ما كثف الغمام نظر الواقف هناك وكأنه على جزيرة ناتئة حولها بحرٌ من دخان تتدافع، أجزاؤه في صمت كأنه الموج الأخرس بحيث يستحيل على ساكن القمة العالية أن يرى شيئاً من السفح، وقليلاً ما يصفو الفضاء فيتبدى سفح الجبل بمساحاته الخضراء وصخوره البارزة الغليظة التي تفصل بين البيوت دون أن تفصل بين قلوب أصحابها.
“خرايب سالم” في ريف جبلة تلك القرية التي يعرف الجميع بعضهم البعض، فهم متكاتفون في أفراحهم و مآسيهم، ويرسمون أجمل صور التكافل الاجتماعي المتجذر في مجتمعنا مهما اختلفت الجغرافية .
هناك بين البيوت المتناثرة التقينا الجدة أم معزّ التي خط الزمن ملامح وجهها الهادئ الذي يشي بالثمانينيات من عمرها وفي الحديث معها عن القرية عادت بها الذاكرة إلى زمن البساطة وكما أسمته الزمن الجميل بكل ما فيه من تعب وعمل فقد روت لنا : كيف كان الجميع منهمكين في تدبر أمر معيشتهم منذ ساعات الفجر الأولى، حيث كانت ربة البيت تستيقظ باكراً عند صلاة الفجر و قبل الجميع تذهب إلى النبع لتملأ الجرة بالمياه للشرب ولطهو الطعام، وحين عودتها تبدأ بأعمال ضمن البيت وأولها إعداد خبز التنور بعد عجن الدقيق و تخميره فترة من الوقت وعندما تشرق خيوط الشمس الأولى تقوم بحلب ما لديهم من ماشية ( غنم أو ماعز او أبقار) لتجهز لكل فرد من العائلة كأساً من الحليب و تقوم بتخثير الباقي منه لصنع اللبن.
ثم تقوم بجمع روث الحيوانات بما يسمى ( القفير) وهو عبارة عن وعاء كبير مصنوع من قصب الريحان ونقله إلى مكان واسع جيد التهوية و تركه ليصبح سماداً للأرض.
وأكملت الجدة اللطيفة أنه عند استيقاظ رب البيت والأولاد يذهبون إلى الأرض ويسلم ماشيته للراعي لتلحق بهم الأم بالفطور، وبعد أن تنهي العائلة فطورها يبدؤون بالعمل في الأرض حتى منتصف النهار، في أثناء ذلك تذهب الأم لتحضر الحطب اليابس وتحمله إلى بيت الحطب لحاجتهم له في تأمين فاكهة الشتاء ولإشعال التنور والتسخين وغيره، فلا غاز ولا كهرباء فالاعتماد كله على الحطب.
كما نوهت الجدة إلى أن الأم لا تتوقف عن العمل فعندما يعود الأب والأولاد من عملهم في الأرض تكون قد أنهت تحضير الغداء لهم ليأخذون بعدها قيلولة حتى وقت العصر، ليعاودوا إكمال عملهم في الأرض إلى قبيل المغرب بقليل ليهتدوا إلى طريق بيتهم قبل حلول الظلام الذي يحل معه الهدوء، بينما تقوم الأم بخض اللبن في الجرة لتستخلص منه الزبدة أما السائل الباقي والذي يسمى (الدو) يوضع على القمح المسلوق الذي تحضره للعشاء بجانبه شوربة العدس و التين اليابس والتمر.
وأكدت الجدة أم معز أنه بعد تناولهم العشاء يخلد الجميع للنوم من شدة التعب بعد صلاة العشاء بقليل.
ليكون لهم موعد مع ولادة يوم جديد يقضونه في العمل بالكدح حتى آخر النهار وذلك في روتين رتيب لكنه جميل بعيد عن ضوضاء المدن، ما يُبقي العيش في صفاء الذهن بعيداً عن الصخب.
وعلى الرغم من أن حياة القرية تتصف بالهدوء والصفاء إلا أن هناك معاناة كانت تصاحب ساكنيها خصوصاً عندما يمرض أحد أفراد الأسرة حيث يستلزم الأمر السفر بمعناه الحقيقي إلى المدينة للذهاب إلى المستشفى أو رؤية الطبيب في ظل انعدام الطرق المعبدة قديماً فيتم السفر بمشقة مع وعورة الطريق.
كما كان الجميع يقومون بشراء الصابون والشاي والكاز والخيطان وكل ما يلزمهم من المدينة وغير موجود في القرية، وذلك بعد بيعهم محصول التبغ بالإضافة إلى أنهم كانوا يربون الدجاج ويقايضون البيض مع هذه الحاجات فلا “نقود” متوفرة آنذاك.
أما عن الدراسة ققالت الجدة أم معز أنه كان في القرية مدرسة للمرحلة الابتدائية عبارة عن غرفتين أو أكثر مبنية من حجر مسقوف بالخشب والطين حاله كحال جميع بيوت القرية.. وبعد إنهاء الطلاب المرحلة الابتدائية يستأجرون غرفاً في المدينة لإكمال دراستهم فيها. و الجدير بالذكر أن الأغلبية العظمى لسكان هذه القرى قد أكملوا تعليمهم حتى إنهاء المرحلة الجامعية.
كانت الجدة سعيدة وهي تستذكر تلك الحقبة من الزمن لما كان فيها من مودة ومحبة، فقد أوضحت لنا كيف كان يجمعهم التعاون والمساعدة في أي أمر، ففي حال مرض أحدهم يزوره جميع أهل القرية إن كان هناك زعل أم رضا الكل يتعاطف مع المريض فلا مكان للأحقاد أو البغض كما يساعدون بعضهم في تعمير المنازل كلهم يدٌ واحدة ، يجتمعون في الأفراح والأعياد و يقفون إلى جانب بعضهم البعض في الأحزان.
واستمرت حالة القرى هذه ردحاً من الزمن حتى زحفت المدينة ببريقها إلى جميع القرى حيث انتشار الكهرباء وتعبيد الطرق ومد شبكات الهاتف وأخيراً مد شبكات المياه وبداية البث التلفزيوني، فأصبحت القرى بفضل تلك الخدمات وكأنها مدن مصغرة، وبذلك ودعت القرى جزءاً كبيراً من هدوئها وصفائها وعلى الرغم من أن كثيرين هجروها في البداية من أجل السعي إلى تحصيل المعيشة والتعليم، إلا أنها في زماننا هذا بدأت تشهد هجرة عكسية هرباً من صخب المدينة وتعقيدات الحياة فيها.
وتبقى القرية تلك المساحة الصغيرة التي يذهب إليها كل من تحتاج روحه للراحة وعقله للهدوء فينعم بإجازة بعيدة عن ضجيج المدينة ليرى جمال الطبيعة التي لم يرها منذ زمن.